كميـــــــت

كميـــــــت
د.احمد الأســــــــود
( كميت  هو أول إعلان لك أنك في ( مرات ) يقول المثل (أضمن لي كميت أضمن لك  مرات  فهو يقف شاهقاً معلناً عن نفسه وعن ضآلة ما حوله من منازل متراصة وحقول متناثرة لعل هذا الجبل ذا المئة وتسعين مليون عام هو السبب في اتجاهي للجيولوجيا.
لطالما أحببت صعود ذلك الجبل حتى القمة عندما كنت صبياً . كنت أقضي وقتاً طويلاً على أعلى طبقات صخور الجير الضاربة للصفرة التي تكلل صخور الطفل الأحمر  تحته . لقد كان ذلك يعني لي الكثير من الحرية والتخلص من القيود : قيود الرؤية ، وقيود الفضاء.  كميت يتيح لي العيش في البراح والشعور بالانطلاق والفضاء اللامحدود.
كنت لا أمّل من الجلوس على قمته مطلقاً بصري نحو البيوت التي تبدو وكأن الجبل يحتضنها ، أو وكأنها وهي في ذرى ذلك الجبل تلوذ به لحمايتها من رياح السموم وعاديات الزمن وأنظار العدى.
وإن كان صعود كميت مجهداً  ، فإن لهفة التطلع للوصول للقمة بما تحمله من إغراءات الاستمتاع البصري والشعور بالتحرر من قيد الفضاء تنسيني ذلك التعب . وفي النزول متعة لا تعادلها متعة ، فهنالك طريق ضيق شديد الإنحدار محفور في صخور الطفل الأحمر الطينية نسميه ( المهلّة ــ بتشديد اللام ) فكنت فعلاً أنهلّ سريعاً على طول سطح كميت.
وكنت في عدوي السريع هابطاً أحس وكأني أطير ، وكأني تخلصت من قيود قانون الجاذبية. وهي متعة لا يعرفها إلا من جربها ــ ولعل أغلب سكان مرات قد جربوها.
وفي قمة الجبل كنت أسّرح بصري بادئاً بـ ( الجفرة ) والبيوت خلفها ثم حقول ( العلاوة ) ثم  ( الصبخة ) بأثلها المتناثر عن يساري وصولاً إلى ( المشيرف ) و ( ضلع آل موسى ) على طرفيها. ثم ( المدرجية ) عن يميني يليها نخيل ( الرفيعة ) و( الرويضة ). ثم أسرح بصري أبعد نحو وادي ( كافت ) ووادي ( مانح ) ووادي ( الرعن ) و( شعيب النخيل ). وفي الأيام الشديدة الصفاء بإمكاني أن أرى منطقة ( المكمكية ) في الجنوب. أما ( خشوم السميرة ) فإنها في مرمى النظر.
وفي الأصائل حين أرسل بصري من فوق أعلى طبقة صخور الجير الصفراء إلى البيوت التي تكسوها شمس الأصيل بصفرة عجيبة ، وحين أدقق النظر فإن بإمكاني رؤية بعض التفاصيل الدقيقة بوضوح : فهذه امرأة تحمل قدر الماء على رأسها متجهة إلى بيتها ، وجمع صبية يلعبون ويتطاردون وسرب طير يحوم حول الغدران ، وغنيمات يشربن من ماء الغدير الصافي. أما الأصوات فلا أكاد أسمع شيئاً إلا حينما تهب نسمات الجنوب حاملة بعض الهمهمات غير الواضحة ، وقد أميز بينها ثغاء ماعز أو صياح ديك.
ولو قدر لشخص أن يرنو في إحدى تلك الأصائل إلى قمة كميت لربما لم يفته منظر شبح هزيل يروح ويغدو على القمة أو ربما جالساً بلا حراك مدلياً ساقيه فوق صخور الجير مستسلماً لسحر المكان ومواجهاً للجنوب.
وحين تميل الشمس نحو الغروب ولا تكاد تميز تفاصيل بيوت ( المدرجية ) حيث تأتي بينك وبين قرص الشمس ، حينها أهب عائداً بعد أن أملأ رئتيَّ من هواء كميت الطلق العليل وبعد أن أفرغ عقلي من خيالات الصبا الجميلة تحسباً للهبوط السريع من قمة ( المهلة ) إلى أسفل سفح كميت. وبدلاً من التوجه مباشرة إلى بيتنا أعرج على بيت ( أمي نورة ) وهي جدتي لأمي ، وأصعد الدرج بسرعة لأجد جدتي في مواجهتي تذكي النار تحت المقرصة بقطع العسبان فتجلسني جــــــــوارها مستمتعاً بعبق قرصان البر. هل هناك أشهى من قرصان البر المخبوز على المقرصة ؟ وتناولني جدتي قرصاً ساخناً فألتهمه بسرعة وأعود بسرعة إلى بيتنا فأمي لا تحبذ أن أبقى خارج البيت بعد الغروب.
وحين تهطل الأمطار فإني لا أفوت فرصة صعود كميت. حينها يكون الجو رائقاً صافياً، وتبدو السماء بين قطع السحاب البيضاء والمتراكمة شديدة الزرقة ، فأستلقي على الصخور الملساء التي اسقطتها عوامل التعرية من طبقاتها لتنزلق وتستقر بشكل مائل قرب القمة ، فأستقبل النسمات الخفيفة الباردة التي تهب من جهة الجنوب فأشعر بإنتعاش وحيوية لا مثيل لهما ، وتصبح حواسي أكثر حدة فبإمكاني التدقيق في سويقات النباتات والزهيرات الصغيرة بجانبي وأتأمل ألوانها وأعدد بتلاتها ، وأراقب النمل في سعيه الدؤوب نحو إخراج حبيبات غذائه لتجفيفها خارج بيوتها المحفورة في الشقوق الطينية الموجودة بين الصخور الصلدة. أنى لهذه المخلوقات الصغيرة بكل هذا التنظيم؟ وكيف لجهاز عصبي بهذا الصغر المتناهي إستيعاب هذا التنظيم المعقد؟ هنالك شيء في النمــــل يُشعرني بالارتياح العميق والسلام والشعور الدافق بحب الطبيعة والإنتماء إليها. وما زال هذا الشعور ينتابني حتى الآن وإن قلّت رؤيتي لها.
وحالما تتوقف الأمطار وتبدأ السحب في الإنقشاع تبدأ الوديان والشعبان والغدران في جريانها هادرة مزمجرة ، وتزداد زمجرتها عندما تصل إلى ( العباّرة ) محاولة  النفاذ عبر مجرى الجسر الضيق إلى الجانب الآخر من الوادي. وهـــــذا يحدث بعد أن تمتلأ الجفرة ( أو غدير كميت كما يحلو للبعض تسميتها ) وترتد المياه وتواصل طريقها عابرة تحت طريق الحجاز المسفلت متجهة بمحاذاة ( الصبخة).
وبعد يوم حينما يهدأ جريان المياه في الأودية تصبح أسطحها رقراقة صافية ويكون بإمكانك ساعتها رؤية انعكاس السماء بما فيها من قطع سحب على صفحة الماء التي تشبه المرآة. من ذا الذي لا ينتشي من منظر الغدران الصافية والشجيرات المبرعمة والسماء الزرقاء الصافية ؟ ومن لا تهيم روحه عند رؤية ( القرقاص ) و ( الحميضــــــــــا ) و ( البسباس ) و( البقرا) و( الحوا ) والزهيرات الجميلة التي لا نعرف اسمائها وهي تتراقص مع هبات النسيم الخفيفة ؟ ومن ذا الذي لا تسكره النسمات المحملة برائحة ( البعيثران ) العطرة في وديــان المكمكية ؟ لكم هو جميل هذا العالم ــ من الصعب تخيل عوالم أجمل من هذا العالم ، وما أقسى الإنسان حين يدنس جمال هذا الكوكب.
وفي أماسي الصيف حين أدلف دارنا تستقبلني رائحة الرطب الرائعة وكأنها تتسلل إلى كـــل خلية في جهازي العصبي.  هل تستطيع الذاكرة استحضار الروائح ؟ لا أعتقد ذلك ، ولكني أدرك أنها رائحة لا تنسى. كم تملأني الغبطة والفرح حين أرى زنبيل الخوص مملوءاً بالرطب ومغطى بقطع العسبان أو أوراق القرع.  لا أهتم كثيراُ بنوع التمر فهنالك أنواع قليلة معروفة في مرات لعل أفضلها ــ بالنسبة لي ــ الصقعي والحلوة والخضري. اما المقفزي والمسكاني والصفري فهي أنواع أقل جودة. للتمر منزلة خاصة في نفسي . لعلي ورثت ذلك من أمي . ولذا لا يكاد يخلو بيتنا من التمر أبدا.ً
وفي ليالي الصيف حينما أتمدد في فراشي في سطح منزلنا بعد أن أطفيء السراج يمتلأ مجالي البصري بالسماء الصافية المهيبة المرصّعة بالنجوم فأسرح بخيالي بعيداً بين تلك النجوم الخافتة واللامعة والقريبة والبعيدة. آه كم أفتقد تلك السماء هنا !! هنالك رابطة كونية عظمى تربطنا بهذا الكون العظيم في وحدة اندماج روحي غير قابل للتفسير.
هنالك رابطة ( روحية ) تربطني بهذا الجبل وكل ما حوله من وديان وبراري وشجر وحقول وبيوت. تهفو نفسي إليها دائماً ومرآها يجلب السعادة والانشراح لخاطري.
من الصعب تفسير الارتباط بالمكان ولكني أعتقد أن الجمال شرط أساسي لتحقيق الارتباط. يجب أن يكون المكان قادراً على تحريك مشاعرك تجاهه ، فالأماكن التي لا تحرك فيك ساكناً لا يمكن الارتباط بها. والجمال بطبيعة الحال مسألة نسبية يختلف من شخص لشخص وتتدخل فيه أيضاً العوامل النفسية والثقافية. ولكن الجمال وحده ليس كافياً لتحقيق الارتباط وإلا لارتبطنا بكل الأماكن الجميلة على هذا الكوكب. أهي الذكريات المرتبطة بالمكان إذن ؟ ولكن ما هي الذكريات ، أليست هي أحداث وبرهات من الزمن الجميل ؟ ولكن ذكرياتنا كثيرة إلا أننا لا نرتبط بكل مكان تربطنا به ذكرى جميلة.
ولكـــــــــــــــن، هل يحتاج الحب إلى تفسير ؟ الحب شعور غامر دافق فياض. إن حاولت عقلنته قتلته. نعم الحب يموت مع العقلنة. الحب مثل السمك أخرجه من بحر الشعور إلى بر العقل يموت حالاً. هو وهم جميل ليس إلا. ومع ذلك فإني ما زلت أحب  ( كميت ) حتى بعد أن شرحته تشريحاً كجيولوجي متمرسٍ وكشاهدٍ متأخرٍ على تاريخه ذي المئة وتسعين مليون عام.
احمد الأسود

Comments

Popular posts from this blog

من أنا؟