في
ذكرى حبيب
كتب د.
احمد عبدالله الأسود :
مع
رحيل كل حبيب تتفتت قطعة من قلوبنا وينفتح باب الذكريات على مصراعيه ، وتنفتح
مغاليق دهاليز في الذاكرة كنا لا نزورها
إلا لماما . أقول دائما ( أن الذكريات هي خير
زاد لتسهيل رحلة العمر) ، وقد قلت (إننا نصنع الذكريات صغارا لنقتات عليها
كبارا ) . وهكذا هي الدنيا ، قال تعالى :(
لقد خلقنا الإنسان في كَبَد) ، إن المشاعر
التي تتهاوى أمام لطمات الدنيا هي ذاتها التي تهبنا القوة في مواجهتها . يقول أبو
العلاء :
تحطمنا الأيام حتى كأننا= زجاج ولكن لا يعاد له
سبك
ولو استسلم
الإنسان لتلك الصفعات لانتهى كتلة مثقلة
بالهموم والأحزان لا يقوى على حملها .
ها قد
دفنا أخي صالح ، وقبله دفنا أخي علي وقبلهما والدتي ، وأول الراحلين منا - من غير
الأطفال - والدي رحمهم الله جميعا وأسكنهم نعيم جناته ، وكلنا في ذات الطريق
سائرون .
انتقل صالح إلى رحمة الله في المستشفى في أمريكا
صباح الأثنين 14 رمضان 1442 الموافق 26
ابريل 2021 وتمت الصلاة عليه ودفنه يوم الخميس 17 رمضان .
وقد عانى صالح من مرض القلب منذ كان
صبيا ، وأجرى عملية القلب المفتوح مرتين .
وفي السنتين الأخيرتين كثر تردده على
المستشفى حتى انه كان لا يكاد يخرج إلا ويعود . وكنا نلح عليه بالعودة فكان يقول :
سأعود بإذن الله عندما أكون قادرا على السفر بالطائرة فأنا أحب أن أزور أحبتي
معافى لا أن أزار مريضا . وعندما اشتد عليه المرض وافق على قضاء آخر أيامه بين
أحبابه في أرض الوطن . وجاء أمر خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين أيدهما
الله ، بنقله بطائرة الإخلاء الطبي وعلاجه
في المستشفى التخصصي في الرياض على حساب الدولة . وكان من المقرر نقله يوم
الأربعاء 16 رمضان والحمد لله على قضائه
وقدره ، إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل
شيء عنده بأجل مسمى .
وفي
يوم رحيله الأبدي وصلتني قصيدة رثاء بعنوان ( في وداع الدكتور صالح الأسود ) كتبها
الشاعر المبدع أخي وصديقي فهد الفهيد يقول
فيها :
تموت غريبا في بلاد بعيدة =وقلبك من آلامه لم يعد
يقوى
تحملت
مالا تستطيع وما درت=شرايين ذاك القلب صبرك للبلوى
وحيداً
حملت اليأس دهراً ولم تكن=بغربتك الكبرى تميل الى السلوى
تحن
الى دار ( القصيبة ) تارةً=ويأخذك التحنان شوقاً لمن تهوى
ولكنها
الآلام تعصف بالذي=تبقى من الاحلام والحب والنجوى
وتشتاق
نجداً والمرابع والمنى=وكم تشتهي شم العرار فلا تقوى
سلاماً
لتلك الروح عادت الى الحمى=بياضاً تساما يرتدي حلة التقوى
عليها
من المولى شآبيب رحمة=وجنات عدن في السماء هي المأوى
لقد
كنت محبوبا وقد كنت ( صالحاً )=وابشر بذكر طيب دائماً يروى
وقلت ساعتها
:أني سأحتفظ بها دائما في شغاف فؤادي
لذكرى حبيب قالها حبيب ، فقد هيجت تلك القصيدة أشجاني وسرى إلى فؤادي صدق
عواطفها وحرارة مشاعرها فأججت فيّ مشاعر
أبت أن تخبو .
وبالرغم من الأسى والألم الذي خلفه رحيل صالح في
نفوسنا ، إلا أن مما يخفف من معاناتنا ويواسينا أنه كان محبوبا
من الناس على اختلاف مشاربهم . وكان محبا للخير سباقا إليه ولمساعدة الناس- بما يستطيع - القاصي منهم
والداني . وذلك من أفضل ما يخلف الإنسان
من ذكر في هذه الدنيا .
ومما
يسعدنا أيضا أنه لم يمت وحيدا ولا غريبا ،
فقد كانت ابنتاي حفظهما الله معه في المستشفى ، وكانتا تصلانا به وبأخويّ محمد وسلطان – عبر الفيديو- فنراه
ويرانا ويسمعنا ونسمعه ، فنتحدث ونتذكر
الأيام الخوالي ، إلى أن أصبح كلامه
متعذرا ، فكنت أتحدث إليه وهو يراني ولا يستطيع الإجابة ، فأخفي الغصة في حلقي
وأغالب عبرات تكاد تنطلق ، وكنت أخفف عنه وعن نفسي وعن عائلتي . وكنا معه الى
اللحظة الجليلة لإسلامه روحه لبارئها بعد تلقينه الشهادتين .
ولعل
من أهم ما يميز شخصية صالح هو تعلقه الشديد بالماضي ومحبته للناس وكرمه السخي واهتمامه بالجانب
الروحي لشخصيته ، وعشقه للجمال في الطبيعة
والوجود . فقد كان محبا ومقدرا لكل ما يذكره بالماضي وكأن الزمن قد توقف عنده عند فترة الشباب المبكر ، فمثلا ظل
يدعو أصدقائه بألقاب تمليح الطفولة حتى بعد أن شاخوا . وكان محبا جدا للناس، طيب القلب نقي السريرة وكريما غاية
الكرم فقد كان يرسل هداياه إلى محبيه في
المملكة بالبريد الجوي أو عن طريق أصدقائه المسافرين الى المملكة.
ومن
عرف صالح عن كثب فلن ينساه أبدا ، فلقد كان رحمه الله ذا شخصية فذة بكل ما تحمله
الكلمة من معنى . ولا أقول ذلك من منطلق
أنه أخي فحسب ، بل هو الواقع لا مبالغة فيه . فكل محبيه يقدرون صفاء نفسه ونقاء
روحه وطيبة قلبه وبساطته ومشاعره الفياضة
بالعطف واللطف والرحمة والمودة . ولم أر شخصا عرف صالح إلا ويحمل ذكرى جميلة
عنه تتبدى في موقف أو عدة مواقف يتذكرونها
ويرددونها عنه بكل حب . وهناك أصدقاء ومعارف كثيرون لصالح داخل المملكة وخارجها
فقد كان ذا شخصية جذابة وكاريزما مؤثرة .
ولعبت
الروحانيات دورا كبيرا في حياة صالح وله الكثير من الرؤى التي تحققت مثل أخي علي
رحمه الله ، وكلاهما قد ورثا ذلك من والدتي رحمها الله وأذكر أنها كانت تخبرنا في
الصباح – قبل الهواتف - من سيأتي اليوم
للزيارة وقد تكون زيارتهم مستبعدة ، فيتحقق ذلك ، وقد تعودنا على ذلك .
ومن
رؤى صالح أنه كان في مرات في عطلة نهاية
الاسبوع ليزور والديه وإخوته وكنت وقتها أكتب أطروحة الدكتوراه في أمريكا ، وفي
يوم الجمعة قبيل عودته الى الرياض قام صالح بغسيل ثياب أبي ونشرها على حبل الغسيل
، ثم توجه للرياض . حلم بعدها برؤية ملابس أبي
وأنها مازالت معلقة على حبل الغسيل
وحزن صالح في الحلم كثيرا لعدم لبس أبي لثيابه التي غسلها له. وفعلا لم يلبسها أبي
رحمه الله فقد توفي في اليوم التالي . وله مثل ذلك الكثير مما لا يتسع المجال
لذكره .
كان
طريقانا مقرونين بشكل وثيق الصلة ، فهو أكبر أخوتي الصغار علي ومحمد وسلطان .
قضينا طفولتنا المبكرة معا في مرات في ( بيت القصيبة ) وهو بيت طيني كنا نراه بمقاييس الطفولة كبيرا
جدا فقد كنا نلعب الكرة بداخله . وكنت أكبره بأربع سنوات على الأقل وأنا أكبر
أخوتي الأحياء ، وكان يحب الخروج معي للعب خارج المنزل ، وكنت أتغافله وأهرب وحيدا
، فوجوده معي ومع الأطفال الآخرين من أقراني يحد من حركتنا كثيرا ، فبسبب صغر سنه
بالنسبة لنا لم يكن قادرا على مجاراتنا في
الجري واللعب . ولا شك أن ذلك كان يؤلمه
كثيرا ، إلا أني في نهاية المطاف بدأت أشفق عليه وآخذه معي للعب وكان يسعد بذلك
كثيرا . وكان في طفولته المبكرة يسميني (أٌبَيّ ) ، بالألف المضمومة و الباء
الثقيلة والياء المشددة ، ولا أدري من أين جاء بتلك التسمية .
ومن
ذكريات طفولة صالح المبكرة التي تتذكرها أمي رحمها الله ، أنها دخلت
المطبخ يوما فوجدت صالح ، ربما لم يصل الرابعة من العمر ، جالسا على الأرض محتضنا
نجرا (هاونا ) بقدر قامته تقريبا وهو جالس ، وورق تغليف الحلاوى يملأ أرض المطبخ ،
وهو منهمك في رضح الحلاوى في النجر والتهامها . فقالت له أمي : وش ذا يا صالح ؟ فقال وهو يتابع
التهامه للحلاوى : حلا لو . وكانت تضحك من ذلك كثيرا في كل مرة ترويها لنا . وكانت
أمي تجمع الحلاوى في صندوق معدني لتوزعه هدايا على زوارها من الأطفال قبل أن يغير
صالح على مخزونها ويقضي عليه .
وقد
عشنا سوية في شقراء صالح في المتوسطة وأنا في الثانوية فلم يكن في مرات متوسطة . ثم انتقلنا للرياض
سوية ليكمل صالح الثانوية وأنا أدرس في كلية العلوم بجامعة الرياض . وبعد الثانوية
حصل صالح على بعثة لأمريكا ، ولحقت به بعد تخرجي بالبكالوريوس في الجيولوجيا وعلم
الحيوان ، وعاد صالح للملكة بعد حصوله على درجتي بكالوريوس في الفلسفة وفي السينما
ليعمل معيدا في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود ، وعاد لأمريكا لإكمال دراساته العليا . وفي أمريكا قضينا
سنوات عديدة بين الدراسة والعمل في الملحقية الثقافية بواشنطن . وقبلها سافرنا
سوية إلى تركيا للعلاج على حساب الدولة وربما كان في المتوسطة ، وكنت بجانبه أثناء
عملية استبدال الصمام التاجي في القلب في لوس انجلوس حتى شفائه .
وصالح
عاشق للهواء الطلق والطبيعة الرحبة ، وكثير من لقاءاتنا في أمريكا كانت تتم في المنتزهات الكبيرة بعيدا عن صخب
المدينة ، وعندما يأتي لزيارتنا لغداء أو
عشاء ننتهي دائما بمشية طويلة في منتزه
كبير على ممشى دقيقة من بيتي . وفي مرات
كنا نمشي في بطون الأودية الكثيرة التي تحيط بها والبراري الفساح . وفي الليالي
الصافية غير المقمرة كنا نجلس في الظلام نتأمل جمال السماء وروعتها . وفي الليالي
المقمرة كنا نجلس نتحدث في العراء وضوؤنا الوحيد هو القمراء . وصالح موهوب جدا في الطبخ فكنا لا نتردد في
إجابة دعواته في منزله فطبخاته لذيذة لا
يجاريه فيها أحد ، ولا شك انه قد ورث تلك
الموهبة من والدي رحمه الله فقد كان طبخه لذيذا لا يجارى . وكان يحب الأغذية
الصحية العضوية ، ويحب التداوي بالأعشاب الطبيعية ، وهو تقليد ووعي صحي استمر معنا منذ سنواتنا الأولى في أمريكا .
وصالح
ناجح في مسيرته العلمية والعملية تشهد بذلك سيرته المهنية ، فهو حاصل على درجتي
بكالوريوس من جامعة كاليفورنيا ، سكرامنتو عام 82 ، واحدة في الفلسفة بامتياز مع مرتبة الشرف والأخرى في
السينما أيضا بامتياز مع مرتبة الشرف . كما حصل على شهادتي ماجستير الأولى من جامعة
جنوب كاليفورنيا في لوس انجلوس في الإخراج
السينمائي بامتياز مع مرتبة الشرف عام 86 ، والأخرى ماجستير فنون جميلة من جامعة
كاليفورنيا لوس انجلوس بتقدير ممتاز عام 89 . وحصل على الدكتوراه عام 2000 من
جامعة تمبل في فيلادلفيا بتقدير ممتاز .
كما عمل محاضرا في قسم السينما في جامعة تمبل لمدة عام ومدرسا مساعدا في جامعة كاليفورنيا لوس انجلوس
. وكانت رسالته للدكتوراه عن تحليل صورة العرب في السينما والثقافة الأمريكية . وكان مشرفا ومرافقا لكبار الشخصيات
في معارض المملكة بين الأمس واليوم التي أقامتها المملكة من 1989- 1991 في عدد من
المدن الأمريكية والكندية الكبرى . كما
كان مستشارا غير متفرغ لبعض الهيئات الحكومي في المملكة . وظل يعمل في قسم الإعلام
بجامعة الملك سعود منذ تعيينه معيدا 1984 إلى تقاعده في 2014 .
رحم
الله أخي صالح رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى ، لقد ترك في قلبي فراغا كبيرا
سيظل إلى مماتي . أشعر بعده بخواء وأسى يعتصر فؤادي كلما مر طيفه في خيالي ، وكلما
رن صدى صوته في أذني ، وكلما رأيت أثرا من أثاره . فسلاما على روحه الطيبة الطاهرة
عدد ما هبت نسيم الصبا التي طالما عشقها .
Comments
Post a Comment