أخـــــي علــــــــي
أخـــــي علــــــــي
د.أ حمد عبــــدالله الأســــــــــود
لا يمكن أن أذكر علي إلا وأذكر معه أهم
سمات شخصيته : الأحلام والروحانيات ومعهما سماحة النفس ومقدار عظيم من الحب والمودة
الصادقة لكل من عرف، بل يمتد فيضه إلى كل البشر . علي شخصية فريدة بكل ما تحمله الكلمة
من معنى ، لم أصادف في حياتي مثلها وبشهادة كل من عرفوه عن كثب .
يقول مدير المدرسة الابتدائية التي كان
علي يدرس فيها في يوم العزاء أن جميع الأطفال بكوا عند اضطراره للتقاعد المبكر بسبب
اشتداد الفشل الكلوي عليه .
ظل علي يصارع الفشل الكلوي ويخضع للغسيل
لمدة تقارب الثلاثين عاماً ، فبعد فشل زراعة الكلية الأولى التي استمرت تعمل بنجاح
ما يقارب الخمس سنوات ، خضع لعملية زراعة الكلية الأخرى ، إلا أنه بسبب خطأ طبي كاد
أن يفقد حياته حيث وجدوا الكلية المزروعة تواً ميتة لا يصل إليها الدم بل متعفنة ،
وكاد تسمم الدم أن يقضي عليه لولا لطف الله به . وبعدها ظل سنين طويلة في انتظار كلية
جديدة لم تصل أبداً. وقد أنهكه الغسيل الكلوي أيما إنهاك فهو يغسل أربع مرات أسبوعيا
. وفي السنين الأخيرة بدا واضحاً التأثير المدمر للغسيل على المدى الطويل على صحته
وجسمه . وبالرغم من كل ذلك لم يكن يشتكي ابداً بل كان دائم الابتسام ، دائم الرضى ،
دائم الصبر، قوي الإيمان بالله ، وكان يسأل عن كل شخص يعرفه ويطمئن عليهم . كان علي
روحاً رائعة في جسم عليل .
وعلي متحدث جيد من الطراز الأول لا تمل مجلسه أبداً
، فهو يحدثك في الأدب وفي الدين وفي تجاربه الشخصية فتود أن لا يسكت. بل إنه كان
شغوفا بالأدب والشعر في شبابه المبكر ، وكان يكتب القصة القصيرة . وقد فازت إحدى
قصصه بجائزة كبرى على مستوى المنطقة. وكان
يتمتع بذاكرة جيدة ، فكنت أعتمد عليه في تدقيق
بعض الأحداث الشخصية التي مرت بنا وبأسرتنا . أغلب حياة علي يعيشها في البعد الروحي
. عاش حياته كلها منذ الطفولة حتى وفاته وهو طاهر القلب ، نقي السريرة ، تقياً
ورعا ، شفوقا رحوماً ، ذا قدرة هائلة على الحب
. وكان يقضي معظم وقته في المسجد ، فهو الذي يؤذن في أيام الأحد والثلاثاء والخميس
أي الأيام التي تخلو من غسيل الكلى . وبعد الصلاة يجلس يقــــــرأ القرآن ساعات وحين
يذهب لرفع آذان المغرب لا يعود من المسجد
إلا بعد العشاء ، وكان يختم القرآن
كاملا مرة كل ثلاثة أيام . وفي خطبة الجمعة
1 يناير 2015م وهي أول جمعة بعد وفاته ،
خصص خطيب الجامع الذي كان علي يؤذن فيه في حي السلامة بجدة ( باسم سندي) جزءا من الخطبة لذكر مآثر علي والترحم عليه فأبكى المصلين .
وكان علي عميق الإيمان ، متسامحاً بل شديد
التسامح مع من يختلفون معه في الرأي وفي الإيمان في طريقة الحياة ، فكان يعتقد ان لكل
إنسان جانب طيب خير كما أن له جانب سيء شرير ، وأنك إن خاطبت الجانب الخير فيه فإن ذلك الجانب سينمو
و يزداد على حساب الجانب الشرير . ولذا فإن لعلي أصدقاء كثيرين ومعارف من مختلف المشارب
وجميعهم يقدرونه ويحبونه ، ويزورونه في المسجد ويقضون معه وقتاً هناك يسمع منهم أخبارهم
ويطمئن عليهم ويسمعون منه . لا مكان للكره في قلبه الواسع .
كان علي قوي الجلد شديد الصبر ، فقد ظل
سنين عديدة يراقب تهالك جسده المحطم وصحته المعتلة باستمرار بقوة عجيبة استمدها من
طاقته الروحية الهائلة والرائعة . فأين تجد شخصاً ذا جسد متهالك كجسد علي ويلاقيك بابتسامة
وترحاب ، بل ويؤنسك ويسعى لإسعادك بشتى الطرق.
وكان لا يسمح لأحد بإيصاله للمستشفى
للغسيل الكلوي ، ولا حتى لمرافقته ، ولو كان ابنه بدر . فهو الذي كان يقود سيارته بنفسه
للمستشفى بمعدل أربعة أيام في الأسبوع ويقضي في الغسيل ساعات طويلة .
الأحلام والرؤى تلعب الدور الأكبر في حياة
علي . الحلم هو الواقع الحقيقي فهو صادق دائم الصدق ، أما الواقع فهو خؤون لا يجب
الوثوق به . الواقع لا يجلب سوى مزيدا من المرض
والاعتلال . الحلم هو الواقع الحقيقي الذي تجد فيه روحه عالمها . كل شئون حياته تسيرها
الأحلام فأحلامه ورؤاه تستشرف المستقبل كما انها لا تغفل الماضي. فحتى تسمية ابنه البكر
( بـــــــــــــــــــــــــــدر ) لم يكن من اختياره المحض ، فقد أتاه هاتف في المنام
قبــيــــل ولادته يقول: " سيأتيك بدر
". ورأى في المنام ليلة الجمعة ـ ليلة
وفاة والدتي ــ رأى قبراُ فقال : ما شاء الله هذا قبر امي ما أوسعه وما أكبره ، وفي
الصباح كانت أمي قد أسلمت روحها الطاهرة. وكان يقول لزوجته عند اقتراب انتهاء بناء
منزلهم الجديد بأنه لن يكون معهم عندما ينتقلون إليه .
وعندما كان أخي سلطان يدرس في جامعة
الملك سعود في الرياض دعاه صديق له للذهاب الى المقهى القريب من الجامعة ليأكلا ويشربان
الشاهي . وعندما انتهيا انتظر كل منهما أن يدفع الآخر الحساب فاكتشفا أن أي منهما لا
يملك قرشاً واحداً فقد صرفا كل ما لديهما من نقود في ذلك الشهر ، وحين جاء دور دفع
الحساب أخبرا صاحب المقهى بالأمر ، وإنهما على استعداد لرهن ساعتيهما لحين حصولهما
على المبلغ ودفعه واخبراه أنهما طالبان جامعيان ويسكنان في السكن الجامعي ، فقال بل
اذهبا وإن دفعتما المطلوب فشكراً وإن لم تدفعا فأنتم في حل من ذلك . وبعد يومين أو
ثلاثة أيام جاء إلى سلطان الصديق / سعد السويري وأعطاه رسالة من علي الذي كان وقتها
مدرساً في الابتدائية . وحين فتحها سلطان وجد مع الرسالة مبلغ سبعمائة ريال ، ويشرح
علي بأنه رأى سلطان في المنام وهو يريه جيوبه الفارغة وهو يقول " ما عندي ولا
قرش " فأرسل له النقود .
ويقول اخي محمد بأنه في احد الأيام حينما
هم بتشغيل سيارته لاحظ ان قطة قد علقت في عجلة السيارة من الداخل فحاول إخراجها ولكنها
لم تتحرك ، فذهب وبحث عن عصا طويلة وحاول إخراجها برفق متحاشيا إيذائها . وبعد لأي تمكن من إخراجها ولكنها اتجهت مباشرة إلى
الإطار الخلفي واختبأت داخل العجلة . فحاول إخراجها مرة أخرى وبعد أن نجح في ذلك اتجهت
الى داخل مكينة السيارة ، فأمضى وقتاً طويلاً في محاولة التخلص منها وقبل ان يشغل سيارته
لاحظ ان هناك مكالمة من علي لم يرد عليها فاتصل به فأخبره علي بأنه قد صحا البارحة
من عز نومه ووجد في نفسه حاجة ملحة للدعاء لمحمد بأن الله يجنبه الشر فصلى ركعتين وأمضى
وقتاً في الدعاء له . لعل القطة وما حصل منها هو لتجنيب محمد شراً الله اعلم به حيث
استغرق وقتاً يقول محمد أنه "غير معقول"
في محاولة إخراجها .
وقبيل وفاته حلم وهو في المستشفى بأنه يأخذ
من تراب الجنة حفنة في قبضة يده ويرفعها فوق
رأسه ويجعل حبات التراب تنساب من بين أصابعه وتتناثر على رأسه . وهناك الكثير من الرؤى والاحلام
التي تحققت لي والتي يضيق المجال بذكرها هنا . وأثق أن لدى أصدقائه وأقاربه ومعارفه
الكثير من الذكريات حول ذلك .
لاشك أن علي ورث ذلك الجانب من والدتي فقد
كانت رحمها الله ذات رؤى كثيرة عجيبة .
وفي الطائرة التي اقلتني وزوجتي من واشنطن
إلى المملكة حاولت جاهداً أن أخفف الفيض الانفعالي العنيف الذي أحدثه سماعي للخبر قبلها
بسويعات من أخي محمد الذي حاول بكل ما في وسعه ـ بلا جدوى ـ أن يقلل من أثر الصدمة
وأن لا يفجعني بالخبر ، ولكني لم أستطع كتم تلك اللواعج بداخلي ولا إبعادها ولا الهروب
منها فزاد أوارها، وتزاحمت صور ( علي ) في
راسي، وبدأت استحث ذاكرتي فانسقت معها أو هي انساقت معي إلى يوم ميلاده . وكان يوم
جمعة وقد أخذني أبي معه للمسجد الجامع وأنا طفل ، وعند عودتنا كان علي قد خرج
للدنيا. وها هو علي يكبر أمام عيني فأراه وقد عاد ذات مساء
من ( المدرجية ) حيث مقهى أبي واجفاً مرتجفــــــاً . ما الذي أخافك يا علي؟ ( القمر يلحقني ) . وكتمت
أمي ضحكتها وأفهمته بأن القمر لا يلاحق أحدا ولكنه يتـــــراءى لك كذلك . ثم ها هو
( علي ) يركب دراجته لأول مرة وقد بدت كبيرة عليه . ثم ها هو علي يذهب لمخبز الخباز ( عبده اليماني ) في الصباح لشراء الخبز والفول
للإفطار . ثم تزداد الصور تسارعاً فها هو يسكن معي في الرياض في منزل صغير في حي المعاهد
مقابل معهد المعلمين الثانوي ، حيث كنت ادرس في كلية العلوم في جامعة الرياض ، و( علي
) يدرس في ثانوية الجزيرة . وها هو يتخرج من الكلية ويقوم بالتدريس في ساجر ثم في شقراء ويشتغل علي في الخطوط السعودية لفترة وجيزة
بعد الثانوية مباشرة ويصيبه مرض الكلى عندما
كان يعمل في الخطوط .ثــــــــم ها هو علي يتزوج ويأتي مع زوجته لقضاء شهر العسل في
أمريكا ويقضيان وقتاً عندي في بلومنجتون / إنديانا .
وفي رحلة الطائرة الطويلة الى جدة جلست أنا وزوجتي وطيف علي لا يفارقنا، فتذكرنا آخر زيارة لنا منذ شهر ونصف تقريبا حيث
التقينا به عدة مرات وتحدثنا فيها معه في أمور شتى ، وقد بدا
واضحا في تلك الزيارة أن صحته تزداد سوءا فلم يكن يستطع النهوض او المشي بدون
عكازته ذات الأربع أرجل ، إلا أن حديث
علي النابع من روحه الطيبة يجعلنا ننسى
دائما حالته الصحية فننساق معه في حديث الذكريات الجميلة.
انتقلت روحه الى بارئها يوم الثلاثاء
الموافق 30 /12/2014. وعلي هو الأبن الثالث
من الأحياء لوالدي ووالدتي شماء بنت عبدالله بن عبدالعزيز الموسى . فهو يأتي بعدي
وبعد صالح وهو اكبر من محمد وسلطان . وترك من الأبناء: بدر وندى وشهد، وأمهم ابتسام .ومن الأحفاد ريماس وعبد الله من ابنته
ندى.
وفي يوم رحيله الأبدي شارك ( بدر ) وأخي ( سلطان ) في
تغسيله وتكفينه ، ويقول صالح وسلطان وبدر ومحمد الذين رأوه بعد أن أسلم روحه بأن ملامح
وجهه اكتسبت مسحة من الرضا وكأن ابتسامة ارتسمت
على محياه . ويصفه أخي محمد قائلا : كأنه
علي وهو نائم .هكذا يغادر أبو بدر الدنيا راضيا مبتسما.
هكذا هي الدنيا تجمع المتناقضات ، يستقبلها
المولود بالبكاء و يستقبله من حوله بالضحك ، وهؤلاء الضاحكون اليوم سيبكون ففداءهم غدا. يقول أبو العلاء:
وسرنا والمدامع ينبجسنـــه قدمنـــــــــــا والقوابــــل ضاحكات
عليه النائبات وإن بخسنــــــــه ومن يتأمل الأيام تسهـــــــل
وآمال النفــــــوس معــــللات ولكن الحوادث يعترضــــــــنه
فلا الأيــــام تغرض من أذاة ولا المهجات من عيش غرضنه
فمع كل ما نلقاه من عنت في هذه
الحياة إلا أننا لا نكل ولا نمل منها بل نتشبث بها . فيا للعجب:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا لراغب في ازدياد
رحل علي وترك ذكراه العاطرة
في نفوس محبيه وعارفيه. وبالنسبة لي
وأسرتي ولأخوتي وأسرهم ولأسرته فلا شك أنه قد خلف فراغا روحيا هائلا، ولكن عزاءنا هو هذا
القدر من المحبة التي يكنها له محبوه وعارفوه ، وأنه غادر الدنيا وهو قرير العين راض عن نفسه وعن حياته. فرحم
الله أبا بدر وأسكنه جناته العراض التي طالما حلم بها.
Comments
Post a Comment