مقامة الوردة والمرزبة



 مقامة الوردة والمرزبة




( المقامة المنسية من مقامات بديع الزمان الهمذاني )

بقلم : احمد الأسود


كان يا ماكان في سالف العصور والأوان ، وغابر الزمان رجل يدعى حمدان ، يعيش في بلاد الأمريكان ، ويحب أكل الجريش والقرصان ، والتنزه في البساتين والوديان ، وصعود الجبال ولو كان حفيان .

وفي يوم من الأيام عّرج على بستان يغص بالورد والريحان . تملأه الأزهار ، وتغرد فيه الأطيار ، وتجري فيه الجداول والأنهارو به كل صنوف الفواكه والخضار. فتعجب مما رأى وإحتار ، وتاهت في رأسه الأفكار ، فتشهد بالواحد القهار مبدع هذا الجمال والقادر على الكمال . وبعد طول تجوال ، ألقى عصا الترحال ، واستفاء بظل خميلة ، تشفي النفوس العليلة ، وترد الروح للأجساد الكليلة . فرأى وردة جميلة ، موشاة بالأحمر و مكللة بالأصفر . شذاها يسكر وعطرها يفتن . فكانت  متعة للناظرين ، وبهجة للمتأملين . فسولت له نفسه ، والنفس أمارة بالسوء بأن يقطف تلك الوردة ويهديها لإمرأته ،  ولم يكن يعلم ما تخبيء له الأيام من طوارق الحدثان ، إذ صدف في تلك اللحظة أن مربه حارس البستان فرآه يقطف الوردة ، فجن جنونه ، وطار صوابه ، وانتفخت أوداجه . فتهدد وتوعّد وأرغى وأزبد ، وصاح بأعلى صوته : هلموا يارفاق ادركوا السارق المكّار ، اللصّ الزّنيم ... احضورا بسرعة ولا تنسوا مرزباتكم  . فلم يكن إلا كلمح البصر إذ إرتجت الأرض ، وعلا الغبار ، واسودت السماء . فلما فتح حمدان عينيه ، كاد أن يغمى عليه ، إذ وجد نفسه محاطاً بالزبانية من كل جانب ، وفي يد كل منهم مرزبة ، غليظة متينة ، مهولة مقيتة ، ورأسها مطعم بالأسنان الحادة، منظرها يشيب له الولدان ، ويصيب الصنديد بالرجفان . فلما أدرك ما رأى  وفكر ووعي ، ضاقت الدنيا عليه ، واسودت في عينيه ، فارتجف من رأسه حتى أخمص قدميه ، وأصبح كورقة في مهب الريح . ولم يستطع الوقوف على قديمه ، وخانته ركبتاه ، فخّر على الأرض ساقطاً ، وتناثرت أشلاء وردته أيما تناثر ، وأيقن أن حظه اليوم عاثر . فتقدم إليه كبير الزبانية وأخذ يرقص بالمرزبة بحركات بهلوانية وإيقاعات موسيقية بغية إدخال الهلع إلى نفس حمدان . فكان ذلك ما كان . وبعد أن إنتهى كبير الزبانية من استعراضه ، وأيقن انه أدخل الذعر في قلب حمدان تقدم منه وقال : كيف تسمح لنفسك أن تسرق وردة من بستان ليس بستانك ، وملك ليس ملكك ؟ ألا تعلم أنه جرم عظيم وعقابه وخيم ؟ اليوم حلّت عليك اللعنة ، فسأتفنن في تعذيبك وأذيقك من صنوف العذاب حتى انتشي من نحيبك . فلما رأى حمدان الشرر يتطاير من عينيه بعد وقوعه بين فكيه ايقن بسوء المآل ونهاية الآمال ، واوكل أمره لبارئه .   وأرسل الحارس أحد زبانيته لصاحب البستان  ليبلغه بالصيد الكبير ، وجاء صاحب البستان في موكب عظيم ، وهو يتقدمهم على فرس جسيم  وهنا تقدم صاحب البستان نحو حمدان وقال بصوت كأنه الرعد : هل تعرف قصة المرزبّة ؟ فأرتج على حمدان ، فهو لم يسمع بهذه القصة في زمن من الأزمان . فاعتدل صاحب البستان في جلسته وقال : اعلم يا حمدان أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ، رجل من الأعيان ، ذا مـــــال وأعوان ، وقصور في كل مكان ،  يجمع الذهب والفضة ، في خزائن مكتظة ، يلبس الحرير والديباج ، ويجلس على سرير  من عاج ، ويأكل ما لّذ وطـاب مما تشتهيه نفسه من لحم ودجاج . فلما دنت المنية من طلعته السنية ، نادى ابناءه وقال لهم " أريد منكم ان تناموا معي في قبري عشية موتي لتؤنسوا وحشتي ، وتزيلوا احساسي بوحدتي  ، فليس مثل القبر وحشة ، وليس بعده وحدة ". فقالوا سمعاَ وطاعة يا أبانا . وحينما مات ووضعوه في لحده ،  وفكروا في وعدهم ، ورجعوا لجدهم  أرهبتهم الفكرة  واقشعرت ابدانهم لها، فتنكروا لوعدهم وأبى أي منهم أن يرقد مع أبيه في قبره . وقال أحكمهم :  أليس أبانا يريد من يؤانسه  ويجسره في  رحيله الأبدي ، فلماذا نرقد في قبره ونحن قادرون على استئجار من ينوب عنا  .  فاستحسنوا الفكرة وطربوا لها ، وجلسوا ينتظرون مرور أي محتاج . ولم يطل انتظارهم حتى مر بهم رجل هزيل الجسم بملابس مهترئة لا تكاد تغطي عورته ، يربط وسطه بحزام ويتوكأ على عصا . فنادوه وقالوا : سنعطيك ما يغنيك إن أنت رقدت في قبر أبينا الليلة ، تؤنس وحدته . ففرح واستبشر ، ورأى أن الدنيا ستبتهج له لحظة بعد طول نكال  وثبور .  وعندما وصلت ملائكة الحساب الى القبر وجدوا فيه شخصين فقالوا : ايهم نحاسب ؟ فقال أحدهم : أما الميت فهو مضمون البقاء ، فلنحاسب الحي قبل أن يستيقظ . فقالوا للحي : من أين أتيت بحزامك هذا ؟ فقال : من ليف بعض البساتين ، جمعته ودققته ، وعالجته وصنعت منه حبلاً . فقالوا هل البستان بستانك ، قال : لا . قالوا هـل استأذنت صاحب البستان ، فقال : وهل استأذنه في ليف؟ . وهنا ضربوه بمرزبّة هائلة حتى غاص في الأرض أربعين ذراعاً . ثم قالوا : وعصاك هذه من أتيت بها ؟ قال : قطعتها من غصن شجرة في بستان . فقالوا : وهل هو بستانك قال : لا . فضربوه بالمرزبة الهائلة حتى التصقت أضلاعه بجوفه . وحين أفاق قال للأبناء : لا أريد مالكم ولا مال أبيكم . هذا ما خرجت به من حطام الدنيا وأشار إلى حزامه وثوبه وعصاه وهذا ما لقيت من عذاب ، فيكف سيكون عذاب أبيكم ؟ .

وحينما انتهى صاحب البستان من سرد قصته قال موجهاً كلامه لحمدان : أردت أن تكون هذه القصة عبرة لمن اعتبر فهل تريد أن تنال جزاءك في الدنيا فنضربك بهذه المرزبة كما حدث في القصة وتستريح من عذاب الآخرة . ولم يدر حمدان ما يقول، إلى أن ألهمه الرحمن ولقنه الفكر الصحيح والرأي الرجيح فقال : بل أريد عذاب الآخرة ، وسأطلب من ربي المغفرة والرحمة ، فرحمته تسع كل شيء ، وأنا لم أسرق سوى وردة ، ولا أرى أن سرقة وردة صغيرة توجب الضرب بالمزربة . فقال صاحب البستان : هيهات هيهات أن نتركك بلا عقاب ، فلا بد أن تنال جزاءك جراء اعتدائك فكل واحد من هؤلاء الزبانية سيضربك بمرزبته ضربة . فصفق الزبانية وهللوا ، وأطلق كبير الزبانية الزغاريد ، ورقص بمرزبته رقصة الانتشاء وقال : دعني أكن أول من يضربه بمرزبتي هذه . أريد أن أخسف به أسفل سافلين كي أشعر أنني في أعلى عليين فتكتمل لذتي وتتحقق رغبتي . فأشار له صاحب البستان بالإيجاب . وهنا تقدم كبير الزبانية نحو حمدان وهو يرقص بمرزبته فدار حول حمدان مرتين ، وفي الثالثة هوى بمرزبته على ظهر حمدان بكل قوته فمزقه تمزيقاً . وغاب حمدان عن الوعي وتوالت عليه مرزبات الزبانية واحدة تلو الأخرى . كل هذا وهم يرقصون ويغنون فرحين جذلين في الوقت الذي تمزق فيه مرزباتهم ظهر حمدان .

وكان أكثرهم سروراً وأعظمهم حبوراً هو كبير الزبانية الذي حينما رأي الدم يتفجر من ظهر حمدان ، أخذ يرقص رقصاً عجيباً . ويرمي ملابسه قطعة قطعة حتى أصبح عارياً . وحين آفاق حمدان ، أدرك أنه الصباح حيث أضاء بنوره ولاح ، واكتوت جراح ظهره العاري بشعاع الشمس ، واخذ يتلوى ،ولم يستطع النهوض ، فأغمي عليه مرة أخرى ، وظل في إغمائه الى ان مرّ به بعض البدو السيارة فحملوه معهم وطببوه مدة حتى شفيت جراحه .

وحين شفي حمدان صار لا يطيق رؤية الورود . ففي كل مرة تلوح له وردة كان يتحسس ظهره فتعود له ذكرى آلامه وجراحه ، حتى أنه محا كل صور الورود في بيته .

وبعدها لم يقطف حمدان وردة في حياته ابداً .


                                                                             احمد الاسود

Comments

Popular posts from this blog

من أنا؟

كميـــــــت