تركي الذي رحل
تركي الذي رحل
في
مدرسة مرات الابتدائية كان يحلو للأستاذ احمد الدسوقي اسماعيل سرور ( ما زلت اذكر
اسمه فكان من المتميزين) دائما أن يدعوني وتركي ب (يا أسود الإسم ويا أسود الجسم ) وكنانستلطف ذلك منه فكنا
صديقين متلازمين ، وكان استاذاً عطوفاً يدخل البهجة في حصصه .
المدرسة
كانت تاخذ حيزاً كبيراً من حياتنا فهي لا تنتهي بانتهاء الحصص الدراسية وإنما كنا
كثيراً ما نعود بعد العصر للتربية الفنية حيث كنا نقضي وقتنا بالرسم او الأشغال (
اشغال النجــــارة والحدادة وغيرها ) و في المكتبة حيث نقرأ بصمت أو يناقشنا امين
المكتبة وهو الاستاذ / خضر علي العماس فيما قرأناه ، او لحضور بروفات ( تدريبات )
التمثيليات التي نشارك بها والتي ستقدم في الندوات ( والندوة هي حفلة تقيمها المدرسة
عدة مرات في السنة يدعى لها كل اهالي مرات وتقدم فيها الكلمات والاناشيد
والتمثيليات وغيرها ) ، او حتى بالزراعة والاعتناء بالنباتات التي زرعناها وخاصة
زهور MARIGOLD والبصل وفي الشتاء الجزر . أما الرياضة
فكانت تأتي في ذيل اهتمامنا وكنا نفرح بظهور أسمائنا في قائمة الشرف التي تُعلق في
مكان بارز في مدخل المدرسة.
تركي
هو من علّمنا الرسم وهو من علمنا تشكيل التماثيل من الطين وفي الأخير فتح لنا
آفاقاً رائعة جديدة . قبل تركي لم نكن نعرف التشكيل بالطين ، ولم نكن نجيد الرسم
أو حتى نحبذه .
كان
لتركي موهبة رائعة في الرسم ومقدرة فذة على التشكيل بالطين . في البداية كنا
مأخوذين مسحورين بتحويل الطين بين أصابعه الى أشكال في غاية الإبداع والجمال . وبعد
أن تجاوزنا مرحلة الانبهار بدأنا نراقبه ونتعلم منه ولم يك يبخل علينا بالتعليم
فبدأنا باختيار الطين الصالح للتشكيل ومن ثم الطرق المختلفة للتشكيل وإطلاق العنان
للخيال لكي يصنع الإبداع ، وهناك لذة خاصة بالاكتشاف... إحساس دافيء عميق يغمر
كيانك ، فكنت كل ليلة أغمض عيني في ترقب ما سيحمله الغد من بهجة وإنشراح .
وفي
آخر سنتين من الإبتدائية ( الخامسة و السادسة ) كانت المدرسة تعتمد كلياً على تركي
في الأعمال التي ستقدم في المعرض الفني الذي سيقام في نهاية العام باحتفال كبير .
علمنا
تركي كيف نخلط الألوان ، وكيف نخرج من بوتقة المواضيع الجاهزة المكررة ( جبال وخط أفق ووادي وخيمة أو بيت شعر أو بيوت قرية ) فكانت
لوحاته في منتهى الإبداع والجمال ، وكانت أعماله جميله تسترعي إنتباه الأساتذة
والزوار ، أما نحن الصغار فكنا مأخوذين مأسورين بها. ولعل تركي بأعماله تلك قد
ساهم في توليد وتنمية الحس الجمالي بدواخلنا فصرنا ننظر إلى ما يحيط بنا بأعين جديدة
تبحث عن معاني لجمال وتبرزها ، أعين تكتشف التناغم و التناسق بين الألوان والأشكال
، فتجله وتقدره .
وكانت
تشكيلاتنا للطين تعكس ما يحيط بنا ، فمثلاً حينما وصلت أعمال سفلتة طريق الحجاز إلى
ما بين المشيرف وكميت سيطرت تشكيلات ( الدركتلات ) والـــــــــــــــــــــــــرصاصات
و( الكريدلات ) و ( الزفاتات ) على أعمال الطين التي كنا نقوم بها وقتها ، فقد
كانت اشكالاً جديدة تقدم تحديات جديدة ..ولم يك ذلك على تركي بعسير.
وفي
يوم اشترى شخص من مرات من المعجبين بموهبة تركي الخلاقة أحد أعمال تركي الطينية
بستة قروش ، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي تلقى فيها تركي مالا لقاء أعماله
الفنية . فذهبنا إلى سوق المجلس واشترى من دكــــــــــــــــان ( المطرز ) ودكان
( سويد ) المتقابلين والمليئين بالمغربات والمشهيات ، فشبعنا ذلك اليوم من الحلاوى
المعسل والبرميت والعلك الحار والعلك البارد والعلك أبو جنيه والبسكوت الفشفاش .
وفي
الإجازة الصيفية حين يسافر تركي مع والده لمساعدته في أعمال جباية الزكاة من
البوادي ، نجتمع في الأمسية السابقة لفجر سفره فيخيم علينا الحزن ، ويكون حزنه أشد
لفراقنا ، فلن يكون له أنيس في تلك الرحلة فكل من حوله هم في عمر والده .
وكان
لدى تركي حس موسيقي جميل أيضاً ، فكنا نسمع الأغاني في المذياع ونرددها ونطرب لها
، فكنا نشنف أسماعنا بصوت طلال مداح الشجي وأغاني سميرة توفيق وسلوى التي نسمعها
من إذاعة عمان ، ثم ( إكتشفنا ) أم كلثوم مع ظهور أغنية ( انت عمري ) أول لحن
لعبدالوهاب لها وأسرتنا أغاني أم كلثوم فتعرفنا على أغانيها الأخرى من ألحان
السنباطي وزكريا احمد والقصبجي وحفظنا كل جملة موسيقية في كل الأغاني التي نسمعها .
وكنا نسمع سلامة العبدالله وطارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وفريد الاطرش والكثير من
الأغاني المصرية والشامية والكويتية والبحرينية . وإضافة إلى وموهبته في الرسم
والنحت فقد كان تركي يتمتع بحس إيقاعي جيد ، لذا كل ن يقود الإيقاع في حفلات
السامري العديدة التي كنا نقيمها في مرات في ليالي السمر ، وكانت له أيضا اشعار جيدة
.
كانت
فترة الدراسة الابتدائية بمرات فترة ثرية غنية ، هي فترة الإنفتاح على العالم ،
فترة الإكتشاف ومحاولة فهم العالم ، فترة الطفولة والصبا ، جميلة رائعة ، مرت تلك
الفترة كحلم جميل أفقنا منه بعد حصولنا على الشهادة الابتدائية ، ولم يكن من فراق
مرات بد، فلم يكن في مرات مدرسة متوسطة فكان لزاما علينا الانتقال الى الرياض من
اجل إكمال الدراسة .
انتقلت
الى الرياض وانتقل تركي وكل اصدقائنا ولم نحب الرياض فكنا نشعر وكأنه قذف بنا من
نعيم مرات الى جحيم الرياض . وكان هذا يعني فراق الأهل والأخوان والأصدقاء ، وفراق
مرات التي صارت جزءاً من أرواحنا . وكان
ذلك صعبا للغاية، فكنا كنبتة إجتثت من جذورها لتنقل الى تربة جديدة لا تصلح لها .
وفي الرياض ذبلت أرواحنا.
وبعد
الانتقال من مرات ماتت موهبة تركي الفنية واندثرت تماماً لعدم ممارسته لها وحزنت
وقتها كثيراً حين أخبرني بذلك. وفي الرياض كنا مجموعة اصدقاء نعيش في الــشميسي ،
وتركي يعيش في المرقب فكنا نتواعد على اللقاء في حديقة البلدية بيننا وبينه بقرب
شارع الوزير . واحياناً نكمل المشوار مشياً لزيارته في بيتهم بالمرقب ولم يكن ذلك
كافياً لتعويض ما فقدناه . وظل ذلك الاحساس بالفقد مدفوناً في أغوار نفوسنا ، وما
كان اسعدنا بالاجازة الصيفية حيث نعود إلى مرات بقرب أهلنا وأخواننا وأصدقائنا .
وبعد حصوله على الكفاءة المتوسطة ، بدأ تركي في العمل الحكومي بناءً على رغبة
والده لمساعدته على تحمل تكاليف المعيشة في الرياض فترك الدراسة وتفرغ للعمل بعد أن
تعلم الطباعة على الآلة الكاتبة .
ولم
تنقطع صلتنا ببعض اطلاقاً حتى بعد انتهاء دراستي الجامعية في الرياض وسفري لأمريكا
لإكمال دراستي العليا ، وحتى بعد عودتي من أمريكا . وتزوج تركي وسعد بزواجه وتزوجت
وسعدت بزواجي ورزقنا بأطفال رائعين ومضت عجلة الحياة ، ومضينا معها وما زال طيف
تركي يلازمنــــــــــــــــــــــــي ، أنا وتركي طفلان يلهوان في أزقة مرات .
وبعد
ان فرقتنا سُبل الحياة ، أسسنا منذ أكثر من سبعة عشر عاماً ( دورية ) يلتقي فيها
الاصدقاء مرة في آخر خميس من كل شهر، وما زالت تلك الدورية قائمة حتى يومنا هذا ،
وكان تركي وبقية الاصدقاء يحرصون على اللقاء الشهري وقضاء ليلة كاملة في مقر
الدورية ، ويوم الخميس هذا الذي اخط فيه هذه الحروف هو اول لقاء للدورية بعد رحيل
تركي الآبدي .
رحل
عنا تركي بسرعة ، وحين بلغني الخبر احسست بغصة ومرارة شديدة ، ولم استطع حتى
البكاء فقد تحجرت الدموع في عيني ولازمني شعور مرير بالفراغ والفقدان لعدة ايام ،
وإنعكس ذلك على زوجتي وابنائي ، الذين بدورهم ساعدوني معنوياً في التغلب على ذلك
الشعور ، كنا قريبين من بعضنا حميين ، تربطنا صداقة امتدت من الطفولة حتى وفاته ،
فحين اشتد عليه برحاء المرض حذر أخي محمد قائلاً ( إياك ان تخبرأحمد أو صالح عن
حالتي ) مخافة إزعاجنا .
كان
تركي مليئاً بالحياة ، يدخل البهجة والحبور في كل مكان يكون فيه وعند وصول تركي
الى مقر ( الدورية الشهرية ) تدب الحياة في الجميع فكان قادراً على نقل البهجة
والمرح والسعادة الى كل من حوله ، نعم رحل عنا تركي ولكن ذكراه ستبقى عالقة ابدأً
في قلوبنا ، وسيظل طيفه يلازمني وستظل روحه الطيبة معنا دائماً .
د.أحمد
بن عبد الله الأسود
Kumait779@hotmail.com
Comments
Post a Comment