بوح صخور (مرات)
بوح صخور (مرات)
كتب د.احمد الأســـود:
: قال( فهد الفهيد) ذات أمسية رائقة
تلك الصخور أرق إن هي حدّثت=عن ما مضى وحكت لنا أسرارها
وروت لنا تاريخ أمسٍ غابر=نيرانه خمدت وذاب أواره
وتعود تحيا في خيالي جذوة =للشوق تشعل في ضلوعي نارها
هي صخرة لا تسجيب لسائلٍ=لكن كل الصدق في أخبارها
حقب مضت جيل وراء مثيله=تنبيك عن تاريخهم أحجارها
لعلك استمتعت بسماع اخبارها يا صديقي كما سعدت ودهشت وهي تفصح لي عن أسرارها
. لطالما استنطقت تلك الصخور صابرا ومتحايلا حتى أباحت بتاريخ مولدها وأسرار نشأتها
الأولى ومسار حياتها .ليس هنالك لذة فكرية تضاهي دهشة الإكتشاف!
هذه الصخور الشامخة بكل معنى للشموخ تقف صامدة في وجه الزمن مئات الملايين
من السنين غير عابئة برياحه العاتية ولا بمياهه الجارفة ، ونحن نمر عليها بلا مبالاة
وكأنها ليست هناك، وكأنها ليست أرشيفا تاريخيا لأحداث هذا الكوكب.ولو أوليناها اهتمامنا
لما بخلت علينا بمفاتيح مغالق اسرارها.
هذه الصخور الصماء الصلدة التي
شبه كثيّر إعراض عزة به :
كأني أنادي صخرةً حين أعرضت= من الصم لو تمشي بها العصمُ زلتِ
والعصم الماعز. وهي في قصيدة
طويلة وجميلة ، مطلعها :
خليليَّ هذا ربعُ عُزَّة فاعقلا = قلوصيكُما ثمّ ابكيا حيثُ حلَّتِ
ومُسّا تراباً كَانَ قَدْ مَسَّ جِلدها = وبِيتاً وَظِلاَّ حَيْثُ باتتْ
وظلّتِ
ولا تيأسا أنْ يَمْحُوَ الله عنكُما = ذنوباً إذا صَلَّيْتما حَيْثُ صَلّتِ
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّة ما البُكا= ولا مُوجِعَاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّتِ
نعم هذه الصلادة والقوة في هذه
الصخور والتي ( لو تمشي بها العصم زلت )وكأنها
لا تخفي شيئا بداخلها ،هو مظهر زائف ، إذ سرعان ماتفقد تلك الصلادة وتصبح( أرق إن هي
حدّثت). إن بوحها بأسرارها يفقدها قوتها وصلادتها. ونعم (هي صخرة لا تستجيب لسائل)
... ليس أي سائل على أية حال ، فلطالما اجابت اسئلتي وشفت فضولي .
الصخورهي سجل الزمن. كل احداثه مسجلة فيها وهي شاهدة عليه. كنت اقول لطلابي
في قسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود وهم
عند مشارف الجبل يتهيئون لصعوده(ان
كل طبقة من الطبقات التي تراها امامك هي صفحة من كتاب تاريخ الأرض ، وحين تقطع الطبقات
صاعدا عرض الجبل فإنك إنما تقطع الحدود الزمنية ، وقد تقطع ملايين السنوات في مسيرك
ربع ساعة، فامشِ رويدا وتأمل مليًّا).
ولكن واويلتاه! هنالك صفحات ضائعة من هذا التاريخ، بل لقد بلغ الأمر ببعض
الجيولوجيين ان يضع شعار ( الثغرات اكثر من السجل في التارخ الجيولوجي الرسوبي) نظرية
ومنهجا. والثغرة في السجل الطبقي تحدث اما بزوال الطبقة بعد ترسيبها بعوامل التعرية
، او انها لم تترسب اساسا وبالتلي يصبح جزء من الزمن ضائعا.
البحر يحفظ والبر يضيّع. الطبقات التي ترسبت في البحر تحفظ بقايا الكائنات
الحية فيه وتبقيها محفوظة داخلها لمئات الملايين من السنين على هيئة (أحافير)الى ان
يأتي جيولوجي مثلي يستنبط اسرارها فتبوح له ما وسعها البوح. أما البر فليس لديه مستودع لسر، الطبقات
البرية لا تحفظ اسرار الزمن الجيولوجي كما تحفظها الطبقات البحرية بسبب سيادة
عوامل التعرية في البر وسيادة عوامل الترسيب والدفن في البحر.
صخور كميت هي أول عشق لي.وقد ازداد وجدي بها بعد ان باحت لي بخفاياها.
هنالك نوعان من الصخور في كميت الصخور الجيرية الصلدة الضاربة للصفرة التي تكلل قمته ، وتحتها صخور الطَّفل
الأحمر الهشة، وكلها صخور رسوبية . هذه الصورة
مكررة في (ضلع آل موسى) . وصخور كميت تكون جزءا من (متكون مرات) ، ومتكون مرات هذا
مؤلف من ثلااثة اعضاء(اجزاء) الجزءان العلوي والسفلي من الصخور الجيرية، والجزء الأوسط
من الصخور الطينية( الطفل الأحمر). الجرء السفلي من متكون مرات لا يظهر في كميت ولكن
يمكنك مشاهدته مكونا ارضية (وادي الرعن) كما يمكنك مشاهدة الطبقات الكاملة متراصة بشكل
بديع في (الشمس). و(قارة دهيش) يظهر فيها الجزء الأوسط من متكون مرات بشكل جلي وقليل
من احجار الجير في القمة .
صخور كميت ومتكون مرات بصورة عامة
تكونت منذ 183 مليون عاما واستغرق ترسيبها 9ملايين عام وتوقف ترسيبها منذ174
مليون عام. متكون مرات يمثل العصر الجوراوي المبكر. وفي الحقيقة هو يمثل أواخر العصر
الجوراوي المبكر . العصر الجوراوي بدأ منذ201 مليون عام.، ولكن ال18 مليون عام الأولى
منه لا يوجد لها سجل على الأطلاق في كل أرجاء الجزيرة العربية، فهذه الفترة السابقة
لترسيب متكون مرات هي ثغرة زمنية كبيرة تقدر ب18 مليون عام.هذه الثغرة سببها ان المنطقة
كانت مرتفعة فوق مستوى سطح البحر بسبب الحركات الأرضية التي رفعت أجزاء من القشرة الأرضية
فساد فيها التعرية وعدم الترسيب .
هذه الصخور(متكون مرات)ترسبت في مياه بحرية ضحلة دافئة . وقد تقدمت بحور
الجوراوي ( المسمى ببحر التيثيس) وغطت معظم اجزاء الجزيرة العربية وكانت مرات(الحالية)
ترقد و قتها تحت مياه البحر ولكن ساحل البحر على أطرافها. ولو اخذت عينة من حجر الجير
من اعلى كميت وصنعت منها مقطعا دقيقاسمكه3ميكرون ووضعته تحت المجهر لأدهشك مرأى الكثير
من الاصداف البحرية.
أما صخور ( المكمكية) و(خشوم السميرة) و (الغار) فهي تروي قصة بديعة أخرى.هذه
الصخور الرملية اقدم من صخور كميت.وهي جزء
من(متكون المنجور ) وهو يمثل العصر الثلاثي
الذي بدأ منذ 252 مليون عام وانتهى
منذ 145 مليون عام ودام 56 مليون عام. في ذلك الزمن كانت الجزيرة العربية متصلة بأفريقيا
لأن البحر الأحمر لم ينشق بعد ولن يحدث انشقاقه الا بعد اكثر من 100 مليون عام فهو
لم يتكون الا منذ 30 مليون عام.
صخور المكمكية ومتكون
المنجور عموما ترسبت في بيئة برية نهرية ، وما زالت الصخور المكمكمية تحتفظ بالكثير
من جذوع الأشجار التي عاشت منذ 250 مليون عام على هيئة أحافير تم تكوينها بما نسميه
بعملية (التمعدن)وفيها يتم استبدال الجزيئات العضوية جزيئ بجزيئ ببعض المعادن مثل معادن
اكاسيد الحديد في حالة احافير المكمكية ، وهذا
ما اعطاها صلادة وقوة على مقاومة عوامل التعرية طيلة هذه الملايين من السنين. وشهد ذلك
الزمن ايضا تفكك القارة العظمى المسماة (بانجيا)، فقد كانت كل القارات المعروفة
حاليا كلها مجتمعة في كتلة واحدة ، بدأت تتفكك
منذ 235 مليون عام إلى قطع صغيرة كل منها يسير في اتجاه حتى وصلت إلى
وضعها الحالي.
ولو عدنا بذاكرتنا الزمنية الى 250 مليون عام مضت ، وانخنا ركاب فكرنا
في المكان الذي يعرف اليوم بمرات لرأينا برا كبيرا ولابحر هناك إذ كان على تلك المنطقة
ان تنتظر 69 مليون عام لكي تنكفئ تحت مياه البحر.
ولكن المشهد سيكون جميلا فهناك الكثير
من الانهار والكثير من الغابات المملوءة بالأشجارالباسقة والتي تقطنها الكثير من الزواحف والحشرات ولا شيئ غير ذلك فلن تسمع تغريد طائر ولاثغاء ماعز ، فالطيور والثدييات
لم تظهر على الأرض بعد ولن تظهر الا بعد ملايين السنين حيث ستظهر اسلافها المسننة
(ذوات الأسنان) أولا. كما ان المشهد يخلو من الأزهار فلم تظهر النباتات الزهرية إلا
قبيل نهاية العصر الكريتاوي منذ 60 مليون عام.
ومع ذلك فأظن ان المشهد سيكون جميلا ، فلا شيئ يجوب تلك البراري سوى أسلاف
الديناصورات الصغيرة الحجم، كما ان اليوم في ذلك الزمن كان أقصرمن يومنا الحالي فكان
لا يتجاوز 23 ساعة. وقد كان طول اليوم منذ 400 مليون عام هو 22ساعة وزاد طول اليوم عبر ملايين السنين بسبب تباطؤ سرعة دوران الأرض حول محورها نتيجة لجاذبية
القمر.
. وبعد، فهذا غيض من فيض مما باحت لي به تلك الصخور
الحبيبة على قلبي، وفي الجعبة المزيد
وأخيرا هذه تحية من عاشق الصخور الذي امضى جزءا كبيرا من عمره في محاولة
فهم اسرارها وسبر أغوارها الى شاعر الصخور.
تحية مضمخة برائحة الطين العطرةومكللة بمعادن المرو والكالسيت.
احمد الأســــود
Comments
Post a Comment