أم كلثوم تصدح في( مرات)

أم كلثوم تصدح في( مرات)
كتب د. أحمد الأســود:

في أواسط الستينيات الميلادية كانت (مرات) تعتبر واحدة من أهم ثلاث محطات على طريق الحجاز( الرياض-مكة) فكان المسافرون من الرياض او من دول الخليج شرقا  والمتجهين غربا نحو مكة ومدن الحجاز الأخرى يتوقفون بالضرورة في مرات كأول محطة واستراحة للتزود بالوقود   والطعام والشاهي والقهوة والماء البارد ، ثم سيتوقفون بعدها في الدوادمي  ثم في عفيف  وهناك من يتوقف في السيل كآخر محطة قبل الوصول الى مكة. والواقع أن موقعها الجيد  على طريق الحجاز   قد أفاد مرات كثيرا وأنعش اقتصادها ، واستفاد الكثير من الأهالي من ذلك فقامت محطتين للوقود، وبعض الورش الميكانيكية لخدمة السيارات المتعطلة وصيانتها، وتعلم بعض أبناء مرات ميكانيكا السيارات وبرعوا فيها . والى جانب ذلك كانت قطع غيار السيارات تباع في الدكاكين التي تبيع مختلف البضائع الأخرى. ولكن الأهم من ذلك هو قيام عدد من المقاهي التي توفر الشاهي والقهوة والمكان المريح .وأغلب هذه المقاهي قامت على الجانب الجنوبي للطريق حيث اصطفت هناك حوالي اثنتا عشر مقهى ، مع بعض المقاهي  والكثير من الدكاكين على الجانب الشمالي.  وكان اقتصاد البلدة ينتعش أكثر ما ينتعش في موسم الحج، حيث تأتي حملات الحجاج العديدة من دول الخليج ومن تركيا ، ويبقى الكثير منهم في مرات لأكثر من يوم ، حيث ينصبون خيامهم وبعضهم يستأجر الغرف الملحقة بالمقاهي او الغرف المستقلة المبنية أصلا لهذا الغرض. وفي هذا الموسم يأتي الخرازون من مناطق مختلفة في المملكة ويستأجرون دكاكين في ذلك الموسم لبيع الأحذية الجلدية الشهيرة للحجاج.
 في ذلك الوقت اعتادت أغلب الإذاعات العربية أن  تذيع إحدى أغاني أم كلثوم الطوال ك(أغنية السهرة)  كل ليلة جمعة . وفي( مرات ) في ليالي الصيف الجميلة  يكون الجو لطيفا للغاية حيث  كان أصحاب المقاهي  ومن ضمنهم والدي رحمهم الله جميعا يرشون مقدمة القهوة (المقهى) بالماء قبيل الأصيل ثم بعد المغرب نفرش مقدمة القهوة بالفرش والمراكي والوسائد ، وبعد العشاء وحين تبدأ  أغاني السهرة كانت جميع القهاوي ترفع صوت الرادو إلى أقصاه على إحدى أغانيها، وكان الناس يطربون لها ويستمتعون بها. كبيرهم وصغيرهم فلم يكن ذلك مستنكرا.  وكانوا يبدون استحسانهم لغناء أم كلثوم  ويتحدثون عن أغانيها المفضلة لديهم. وكان هناك عدة مقاهي متلاصقة  ومصطفة على جانبي الطريق المسفلت (طريق الحجاز)   بحيث يكون بإمكانك أن تسمع أغار من نسمة الجنوب هنا وذكريات في المقهى المجاور  ورباعيات الخيام في آخر ويا ظالمني في آخر ورق الحبيب  وسلوا قلبي وهجرتك في الجانب الآخر كلها في ليلة واحدة.....كانت ليال رائعة  وكنا سعداء وكان القليل يسعدنا ويبهجنا  . وكنا ننصت للأغنية ونطرب لها  برغم منغصات الرادو حين لا يكون الصوت صافيا.  كنا بسطاء وكانت حياتنا بسيطة تلائمنا . وكنا نستعذب الحياة  وما كنا نتصور ولا نتمنى حياة أسعد من تلك الحياة. كنا حينها نصنع الذكريات صغارا لنقتات بها كبارا.
 ومن أغاني أم كثوم التي تطربني –وما أكثرها- أغنية( اغار من نسمة الجنوب) من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي في عام1957    . فهي من الأغاني الرائعة التي طالما أطربتني ....  لحن رائع وصوت شجي وأداء مذهل  وكلمات في غاية الجمال. لم اك أمل من سماعها ولا أدري متى سمعتها لأول مرة...
وأَنني مِنْ هُيامِ قلبي وشِدةِ الوجْدِ واللهيبِ.. أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
. الموسيقى غذاء الروح ،وزاد المشاعر. هي لغة إنسانية راقية ، ولكنها  لغة تخاطب المشاعر وتحركها ، تسمو بها وتعليها
 الموسيقى تكسر حواجز الثقافة، فأنت  تطرب لموسيقى  أو أغان لا تفهم لغة مؤلفيها. إنني أقف مشدوها أمام بعض الأغاني الأوبرا لية  بدون أن أفهم محتواها الإيطالي، وأتذوق الموسيقى الصينية واليابانية  والهندية وغيرها بدون حاجة لمعرفة تلك اللغات. أما الموسيقى والأغاني الإنجليزية فقد غصت في أغوارها  تماما كالموسيقى العربية.
وتأثير الموسيقى لا يقتصر على البشر فحسب فحتى الحيوان يتفاعل معها ، فحداء الإبل  وارتياحها له عرفه العرب منذ بدء استئناسهم للجمل. وهناك  من يظن أن الشعر منشأُه الحداء.
ما الذي يعطي  هذه الموجات الصوتية كل هذه  القدرة على اقتحام شغاف القلوب  والنفوذ إلى سويدائها؟
وأي سر في هذه الاهتزازات والذبذبات يجعلها قادرة على توليد  المشاعر وتحريكها بذلك العمق وذلك الكم؟
 وما الذي يجعلها قادرة على تحريك أرواحنا وبعثها من هجعتها لتسبح محلقة  في ملكوت الأثير في برزخ ضيق بين الوجود والعدم؟
 وأي سحر فيها يمكّنها من نقل مستوى وعيننا  إلى مستوى آخر من الوعي  لم نعهده في حياتنا العادية؟ لست أدري. ولكني أتساءل مع أبي الطيب  فيما إذا كان من لا تحركه الموسيقى والأغاريد صخرة:
أصخرة أنا ؟ مالي لا تحركني =هذي المدام ولا هذي الأغاريد

 وأخيرا تأملوا جمال وشاعرية( أغار من نسمة الجنوب) : 
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
 وأحْسِدُ الشمسَ في ضُحاها وأحْسِدُ الشَمسَ في الغروبِ
 وأغْبِطُ الطَيْرَ حينَ يَشْدو على ذُرى فَرْعِهِ الرَطيبِ
 فقد تَرى فيهِما جمالاً يَروق عَينَيْكَ يا حبيبي
يا لَيْتَني مَنْظَرٌ بديع تُطيلُ لي نَظْرَةَ الرَقيبِ
 وليتَني طائرٌ شَهيٌ أشْدو بأنغامِ عَنْدَليبِ
 أظَلُ أَسْقيكَ مِنْ غِنائي سُلافَةَ الروحِ والقلوبِ
 وَذاكَ أني أراكَ تَرنو لِبَهْجَةِ الشمس في الغُروبِ
وتَعْشَقُ الطَيرَ حينَ يَشْدو على ذُرى فَرْعِهِ الرَطيبِ
 وأَنني مِنْ هُيامِ قلبي وشِدةِ الوجْدِ واللهيبِ
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي.
 أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
وأَحْسِدُ الزَهْر حينَ يَهفو على شَفا جَدْوَلٍ لَعوبِ
 وأغْبِط النَهرَ حينَ يَجري على بِساطِ الجنى الخَصيبِ
 فَقَدْ تَرى فيهِما جَمالاً يَروقُ عَينَيْكَ يا حبيبي
 يا لَيتَني زَهْرَةٌ تَساقَتْ مع النَدى قُبْلَة الحبيبِ
ولَيتَني جَدوَلٌ تَهادىِ ما بَيْنَ زَهْرٍ وبينَ طيبِ
 وذاكَ أني أَراكَ تَرنو للزَهرِ في غُصنِهِ الرَطيبِ
 وتَعْشَقُ النَهْرَ حينَ يَجْري مُرَجِعَ اللحْنِ والضُروبِ
 وأَنَني مِنْ هُيامِ قَلبي وَشِدَةِ الوَجْدِ واللهيبِ
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
 يا لَيتَنا طائرانِ نَلهو بالرَوْضِ في سَرْحِهِ الخَصيبِ
 ولَيتنا زَهْرَتانِ نَهفو على شَفا جَدْوَلٍ لَعوبِ
 تُميلُني نَحْوَكَ الخُزامى إِذا سَرَتْ ساعَةَ المَغيبِ
فإنني مِنْ هُيامَ قلبي وشِدةَ الوجْدِ واللهيبِ
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي

Comments

Popular posts from this blog

من أنا؟

كميـــــــت