في حضرة جبل ســــــــاق: نسبية المكان والزمان

 

 

كتب د. احمد الأســــــــود:

بدا جبل ساق من بعيد وكأنه رأس ماردٍ يقف في منتصف الطريق الأسفلتي ليصد تقدمي، إذ لا ترى إلا قمته أولاً، وحينما ظهر شكله المثلثي المهيب ورأسه المدبب خالجتني مشاعر توق ولهفة عارمة للقائه عن كثب فوجدت نفسي لا شعورياً أزيد ضغط قدمي على مدوسة التسارع لتنطلق سيارتي نحوه كالسهم المارق ، وحين بدا بكامل هيبته أمام ناظريّ استعدت بعضاً من  توازني وخففت السرعة ، وأخرجت سيارتي للطريق الترابي الموازي  وأوقفتها على ظهر مرتفع  على بعد عدة مئات من الأمتار عن الجبل لأٌتحف نظري بمرآه وأتأمله بهدوء .

وهنا تذكرت قيس بن الملوح العامري ووقوفه أمام جبل التوباد:

             وأجهشت للتوباد حين رأيتـــــه      وكبر للرحمـــــن حين رآني

            وأذرفت دمع العين حين عرفته      ونادى بأعلى صوته فدعاني

والتي طالما رسمت البسمة على محياي في كل مرة تمر بخاطري لما فيها من إلباس للجماد ثياب المشاعر البشرية ،وهذا مايسميه النقاد الغربيون شخصنة  Personification، وفي البلاغة العربية يسمى استعارة ، وأعتقد أنه يؤكد في أبياته تلك مفهوم (الأرواحية Animism  ) والتي تؤمن بأن لكل شيئٍ روحاً بما في ذلك الجماد .

وخرجت من سيارتي فاستقبلتني نسمات نيسان الباردة  اللطيفة فأنعشت روحي وأيقظت ذاكرتي وذكرياتي من سباتها ( والذكريات صدى السنين الحاكي) . وفي خلفية تلك الصورة الجميلة لجبل ساق يتسلل صوت عبد الوهاب الرخيم مختلطاً مع صوت فيروز الملائكي وهما يشدوان بقصيدة شوقي تلك. والذكريات ليست صدى السنين فحسب ، بل إنها تمد أرواحنا بالطاقة . أقول دائما أننا نصنع الذكريات صغاراً لنقتات عليها كباراً . الذكريات هي خير زاد لتسهيل رحلة العمر .

وحين وقفت إزاءه طافت بأرجاء ذاكرتي صورة كنت أظن أن النسيان قد لفها في طياته فقد كادت أن تتلاشى ملامحها وتبهت تفاصيلها ، إلا أنها  هنا ما زالت تنبض بالحياة . صورة طفت على سطح الذاكرة شاقة طريقها عبر ركام هائل من الذكريات لتبرز وحيدة حية متألقة وكأنه لم يفصلني عنها ذلك البون الزمني الشاسع . فها أنا ذا فتى غض الإهاب قوي الشكيمة أحث الخطى وأستجمع قوتي لأصعد جبل ساق ، ونحن في رحلة جيولوجية لقسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود والدكتور عبد الملك الخيال رئيس القسم  وأحد أهم رواد الجيولوجيا في المملكة  ، وقد جمعنا بأسفل الجبل يشرح لنا ما يجب أن نعرفه من معلومات أساسية عن الجبل وما يتعين علينا عمله . كنا مجموعة من طلاب  الجيولوجيا السنة الرابعة بكلية العلوم المطالبين بدراسة جميع المتكونات الصخرية من الرياض إلى القصيم وكتابة تقرير جيولوجي متكامل عن جميع الوقفات التي وقفناها عبر تلك الرحلة . وانتشرنا في عرض الجبل ننقب ونفحص ونقيس ونستخلص العينات الصخرية .

وعلى قمة جبل ساق في ذلك الوقت جلست وحيداً أستمتع بمرأى الصحراء الممتدة حولي وأرقب خط الأفق الذي يلوح من بعيد وأقلب ناظري في السماء الزرقاء الصافية وقطع الغيوم البيضاء المتفرقة القليلة . ولم أكُ حينها أهتم إلا بتمجيد الحياة واحترامها ولا شيء غير ذلك .

لا شيء يعادل جمال الصحراء على ظهر هذا الكوكب في نظري . الصحراء تجعلنا أقرب الى أروحنا. في كل مرة تستقبلني الصحراء أشعر بمدى قوة انتمائي الى هذه الأرض ككوكب، وأدرك أنني مجرد جزء صغير من منظومة الحياة على سطحها .

كم نحن قساة معشر البشر، بل كم نحن أغبياء . إن الغباء البشري يفوق بكثير كل منجزاتنا الحضارية . لقد صنعنا من أسلحة الدمار الشامل والقنابل الذرية ما يكفي لتدمير هذا الكوكب عدة مرات ...نعم عدة مرات .. أي غباء يفوق هذا الغباء !! تخلص من غبائك قبل أن تتشدق بمدى تقدمك وحضارتك ، فلا حضارة يصنعها الغباء .

متى سنعي أن لا حاضن لنا في هذا الكون اللامتناهي سوى هذا الكوكب الرائع الجميل ؟ !

ولنعد إلى كوكبنا قبل أن نتوه في خضم أفلاك كوننا العظيم ، ولنعد لموقعنا تحديدا بين البكيرية وبلدة ساق في القصيم حيث يقع جبل ساق  . تكمن أهمية هذا الجبل الجيولوجية في كونه يحوي أقدم المتكونات الصخرية الرسوبية في الجزيرة العربية وهو متكون ساق كما سماه جيولوجيو أرامكو الأوائل . فأحجار الرمل المكونة له قد تم ترسيبها مع بداية العصر الكمبري أي منذ ما يقارب 541 مليون عام وانتهى ذلك العصر منذ 485 مليون عام مضت ، مستغرقاً ما يقارب 56 مليون عام . وقد ترسبت أحجار الرمل هذه مباشرة فوق الصخور النارية والمتحولة ما قبل الكمبرية للدرع العربي ، وصخور هذا المتكون تعتبر طبقات حاملة للماء في القصيم وفي أجزاء مختلفة من المملكة ، وقد سمّيتُ صخوره طبقة الساق الحاملة للماء العظمى و ابتكرتُ لها مرتبة مستحدثة حيث وضعتُها في مرتبة (خزان مائي عظيم Superaquifer ) في بحث منشور في دورية لعلوم الأرض  تصدر في لندن . ودعوني هنا  أزهو قليلاً فما أنا إلا إنسان مغرق في الإنسانية  ( على حد تعبير نيتشه ) ، فقد ابتكرتُ إضافة إلى ذلك المصطلح عدة مصطلحات ومفاهيم  جديدة في اللغة الإنجليزية بكامل تعريفاتها خاصة بعلم الطبقات وقد تم نشر ذلك البحث في إحدى الدوريات  العلمية الجيولوجية المحكمة البريطانية . وقد ترسبت صخور متكون الساق هذه في بيئة نهرية حيث كانت أنهار عظيمة تلقي بحمولاتها من الرواسب الرملية والطينية مباشرة على الصخور النارية والمتحولة المكونة للدرع العربي .

ولو قدر لك أن تدير عجلة الزمن بشكل عكسي وتعود إلى تلك المنطقة ممتطياً مركبة فضائية زمنية لأدهشك المنظر كثيراً حيث سترى براً وسهولاً ممتدة على مرمى النظر تغطيها وديان وأنهار كثيرة تنبع من مرتفعات الدرع العربي وتشق طريقها باتجاه السهول المنخفضة ومنتهية في البحر العظيم الذي يبعد كثيراً عن منطقة جبل ساق تلك . إلا أن المنظر سيكون موحشاً وكئيباً ، فلن ترى أشجاراً أو أعشاباً حيث لم تظهر هذه في السجل الجيولوجي للأرض بعد وعليها الانتظار لعدة ملايين من السنين لكي يمكن رؤيتها في البر ، وأيضاً لن ترى حيوانات برية البته للسبب نفسه ، فلا أصوات هناك سوى  قصف الرعد وهدير المياه وزئير الرياح العاتية وقعقعة الجلاميد المتدحرجة من علٍ ، وكلها أصوات ستزيد من حدة شعورك بالــوحدة ، وستوقظ الكثير من مخاوفك كما أنها ستوقظ أيضاً وعيك العميق بالتماهي مع الطبيعة .

ولا بد أنك ستلاحظ أن الأراضي من حولك المكونة للدرع العربي ليست عالية بنفس الارتفاع الذي هي عليه اليوم ، إذ أن الدرع العربي نما وارتفع كثيراً منذ ذلك الزمان ، وهذا ما يؤكده الزميل والصديق استاذ الجيولوجيا الفذ الدكتور محمد عيسى الدباغ في نظريته مع أستاذه  (روجرز) عن ( نمو الدروع ) حيث وجد أن الرواسب النهرية لمتكون الوجيد من العصر الأوردوفيشي موجودة الآن على ارتفاعات شاهقة من الدرع العربي وتقع فوقه مباشرة ، فلا بد أنها ترسبت حينها على أرض منبسطة قليلة الارتفاع ، وهذا ما يؤكد أن الدرع العربي كغيره من الدروع الأخرى مثل الدرع الكندي قد نمت أي ازداد ارتفاعها عبر ملايين السنين بفعل الحركات الأرضية .

وما دمتَ في ذلك المكان وذلك الزمان ، فإن عليك أن تتخلص من ذاكرتك المكانية الحالية الخاصة بالاتجاهات ، فلن تفيدك كثيراً ، فما تعرفه الآن في الجزيرة العربية على أنه شمال كان غرباً وما تعرفه الآن على أنه شرق كان شمالاً وذلك بسبب حركة الالتفاف الدورانية لقارة ( جوندوانا العظمى ) والتي كانت الجزيرة العربية أو الصفيحة العربية جزءاً منها . الصفيحة العربية في ذلك الوقت كانت جزءاً من قارة جندوانا العظمى والناتجة من اصطدام بعض القارات ببعض والتحامها في كتلة واحدة . فقد بدأ تكوين جوندوانا مع نهاية دهر الحياة البدائية منذ 800 مليون عام بحدوث حركة شرق أفريقيا البانية للجبال حيث اصطدمت شبه القارة الهندية مع شرق أفريقيا ثم أصطدمت أفريقيا مع أمريكا الجنوبية وتجمعت معها قارة استراليا وقارة القطب الجنوبي . وكانت الصفيحة العربية ملتحمة مع أفريقيا حيث لم ينفتح البحر الأحمر بعد ولن ينفتح إلا بعد ذلك التاريخ بمئات الملايين من السنين ، كما أن الدرع العربي كان متصلاً بالدرع النوبي بأفريقيا ، وقد كانت الصفيحة العربية تقع بغالبيتها في نصف الكرة الجنوبي وربما مر خط الاستواء عند أطرافها الشمالية ( الشرقية حاليا) ، وكان موقع البحر الأحمر حالياً في الجنوب تماماً ، والمنطقة الشرقية والإمارات والكويت وعمان تقع إلى الشمال. وهكذا لو كان بإمكانك أخذ طائرتك معك إلى ذلك الزمان والمكان لكان بإمكانك زيارة الهند واستراليا والقطب الجنوبي من موقعك فيما سيعرف لاحقاً بجبل ساق ثم العودة إليه في ظرف ساعات .

وبالمناسبة فنحن الجيولوجيين نستطيع تحديد خطوط العرض القديمة ( وليس خطوط الطول) من المغناطيسية القديمة المتبقية في الصخور . ولك أن تتخيل أن الأرض بكاملها كمغناطيس كبير محوره يمتد

بين الشمال المغناطيسي والجنوب المغناطيسي وهما مختلفان عن الشمال والجنوب الجغرافيين اللذين يرسمان نقطتي التقاء محور الدوران مع سطح الأرض  ، وبين الشمال المغناطيسي والشمال الجغرافي فرق يبلغ 23 درجة . وخطوط القوى المغناطيسية تخرج من القطب المغناطيسي الشمالي وتدخل مع القطب المغناطيسي الجنوبي  ، والقطب المغناطيسي الشمالي يقع حاليا بالقرب من القطب الجنوبي الجغرافي . درجة ميل هذه الخطوط مطابقة تقريباً لميل خطوط العرض الجغرافية ، فهي صفر عند خط الإستواء وتزداد شمالاً وجنوباً إلى 90 درجة عند القطبين . وهناك عدد من المعادن المغناطيسية مثل الماجنتايت ( أكسيد حديد) التي تترسب من اللابة البركانية  وتستقر بحيث تكون محاورها الطويلة موازية تماماً لخطوط القوى المغناطيسية ، وهذه بدورها موازية تماماً لسطح الأرض وبالتالي فإن الزاوية التي تستقر فيها المعادن المغناطيسية هي تماماً زاوية خط العرض . أما خطوط الطول القديمة فليس هناك طريقة مغناطيسية لاستنتاجها ولكن يمكن تحديدها من العلاقات القائمة بين الصفائح التكوينية .

ولو قدت مركبتك تلك إلى القطب الشمالي الجغرافي و انتظرت إلى حلول المساء وحالفك الحظ بسماء صافية فستلاحظ حتماً أن ( نجم الشمال) ليس هو ما تعودت على رؤيته في زمنك الحالي ( الذي خلفته وراءك) وهو النجم القطبي ، ولكنه نجم مختلف تماماً . والنجم القطبي الآن هو النجم الذي يقع مباشرة فوق امتداد محور دوران الأرض الخارج من القطب الشمالي الجغرافي . والواقع أن ( نجم الشمال) هذا يتغير بتغير الزمان بسبب الحركة اللولبية لمحور دوران الأرض والتي ترسم دائرة في السماء تمر بعدد من النجوم ، وهذه الدورة تستغرق 28800 سنة فقد كان نجم الثعبان هو النجم القطبي أو نجمة الشمال عام 3000 قبل الميلاد . وسيكون النسر الواقع هو نجمة الشمال في عام 14000م، وسيعود الثعبان ليصبح نجمة الشمال عام22800  م  .

  وهكذا ستكتشف أن الشمال (الحقيقي) هو وهم من صنع خيالك ليس إلا ، فلا شيء مطلق إلا القوانين الفيزيائية في هذا الكون ، وإنما كل شيء آخر نسبي .

وماذا عن الشمال المغناطيسي ؟ الواقع أن ذلك غير ثابت أيضاً ، فنحن الجيولوجيون نعرف أن التاريخ الأرضي مليىء بالانعكاسات المغناطيسية Magnetic Reversals التي انقلب فيها موقعا القطبين المغناطيسيين فصار القطب الشمالي جنوباً والجنوبي شمالاً بمعنى أن اتجاه خطوط القوى المغناطيسية تنقلب أو تنعكس وتستقر فترة ثم تنعكس مرة أخرى وفترتنا هذه نسمي القطبية ( قطبية عادية Normal Polarity) والتي تخرج فيها خطوط القوى من القطب المغناطيسي الشمالي ( القطب الجنوبي الجغرافي) وتدخل القطب المغناطيسي الجنوبي ( القطب الشمالي الجغرافي) . ولو كانت عكس ذلك لسميناها أيضاً عادية ، فالإنسان على ما اعتاد ، و ما خالف ذلك سميناه قطبية معكوسة .

وما دام أن المساء قد أدركك هناك فلعلك تكمل اليوم هناك ، وإن لم تكن قد نسيت ساعتك ، فستدرك بفطنتك أمراً غريباً ، فاليوم في ذلك العصر الكمبري ليس 24 ساعة وإنما هو أقل من 22 ساعة بربع ساعة وقد حسبتُها اعتماداً على أن السنة الديفونية بها 400 يوم ، وأن هناك تناقص في طول اليوم مع القدم وبالتالي هناك زيادة في عدد أيام السنة . والزمن الذي يستغرقه ( اليوم) هو الزمن اللازم لإكمال دورة حول محور الأرض . ويعتقد الجيولوجيون أن حركة الأرض حول محورها قد تباطأت عبر الزمن الجيولوجي بسبب المد والجزر الناشئين عن جاذبية القمر . وهذا التباطؤ يقدر ب 0.0016 من الثانية في كل قرن ( 100 سنة) .  فسرعة دوران الأرض حول محورها كانت أسرع بكثير مما هي عليه اليوم ، وبالتالي كان طول اليوم أقصر وعدد أيام السنة أكثر .

وقد تأكد ذلك من الشواهد الأحفورية ، فهناك أحافير لنوع من المرجان  من العصر الديفوني يعيش معيشة تكافلية ( منفعة متبادلة) مع نوع من الطحالب الخضراء التي تعيش بداخله طلباً للحماية ويستفيد منها المرجان بالمساعدة  بترسيب كربونات الكالسيوم وهي مادة البناء الأساسية لهيكله كما أنها تؤمن  له مصدراً داخلياً للأوكسجين ، و الطحالب الخضراء في وجود الضوء تقوم بعملية التمثيل الضوئي حيث تتنفس ثاني أوكسيد الكربون وتطرد الأوكسجين ، وانخفاض تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون  الناتج عن امتصاص الطحالب له في عملية التمثيل الضوئي يرفع الأس الهيدروجيني للماء فيصبح الماء أكثر ميلا للقلوية مما يسهل ترسيب كربونات الكالسيوم ، ويتوقف ترسيب كربونات الكالسيوم في الليل لتوقف عملية التمثيل الضوئي لانعدام الضوء . والمرجان يبني كل يوم طبقة واحدة من كربونات الكالسيوم ، وقد وجد أن عدد حلقات هيكل المرجان في العصر الديفوني التي يبنيها في سنة هي 400 حلقة وهو عدد أيام السنة الديفونية ( العصر الدفيوني من 419 إلى 359 مليون عام مضت ) . كما أن السنة في العصر الكربوني ( الفحمي) تحوي 380 يوماً ، وهكذا تناقص عدد أيام السنة  وزاد طول اليوم تدريجياً حتى وصل إلى 365.25 يوماً الآن و24 ساعة .

كما أنك ستلاحظ أيضاً أن المناخ في العصر الكمبري عموماً معتدل وهذا المناخ محصور بين عصرين جليديين الأقدم في العصر الإدياكاري  Ediacaran( من دهر الحياة البدائية الجديدة Neoproterozoic Era، من أبد الحياة البدائية Eon   Proterozoic) الذي بدأ منذ 635 مليون عام وانتهى 541 مليون عام مضت، والعصر الأحدث هو العصر الأوردوفيشي ( 485 الى 443 مليون عام مضت) والصخور الرسوبية المترسبة في المثالج موجودة في أكثر من موقع في المملكة ، وقد قمت بزيارة منطقة بني خطمة حيث تظهر الجلاميد التي نقلتها المثالج في العصر الأوردوفيشي في خشم خطمة في الجنوب ، وقد كنت حينها أتتبع متكونات خف ومرات وضرما من الشمال إلى الجنوب حيث تظهر ما نسميه بالتغير السحني Facies Change فتحل أحجار الرمل والطفل محل أحجار الجير تدريجياً من الشمال إلى الجنوب حتى تصبح في الجنوب ممثلة بأحجار الرمل والطفل فقط ولا وجود لصخور الكربونات ، وذلك تبعا لتغير بيئة الترسيب  . وقد رافقني في تلك الرحلات زميلي وصديقي طيب الذكر الدكتور جمعه عبدالرحيم العلاوي رحمه الله وزميلي د. محمد الدباغ ، كما قد رافقنا في إحدى تلك الرحلات الجيولوجي النشط د. عبدالعزيز اللعبون . وقد شاهدنا آثار التثلج وشواهده على الصخور في تلك المنطقة . وهكذا فقد كانت المثالج تسود في بعض أجزاء الجزيرة العربية قرب نهاية العصر الأوردوفيشي  .

ولو واصلت رحلتك إلى أقرب بحار الكمبري إلى موقعك في جبل ساق ، ولبست بدلة وجهاز الغوص الذي اتمنى أنك لم تنسهما ، فإنك ستشاهد مياهاً تعج بشتى الكائنات ، وستستطيع حتماً أن تميز الكثير منها حيث أنها ما زالت تعيش في بحار اليوم . والواقع أن بداية العصر الكمبري شهدت ثورة حيوية  سماها الجيولوجيون ( انفجار الحياة) حيث ظهرت فجأة في السجل الجيولوجي جميع شعب ( البعديات Metazoa) ما عدا شعبة الحزازيات ( الجماعيات Bryozoa) والتي ظهرت في الأوردوفيشي المبكر بعد نهاية الكمبري ، كما ظهرت الطحالب الحمراء والطحالب الخضراء والرخويات   Mollusca و المسرجيات Brachiopoda  والحبليات  Chordata ، كما ظهرت من القشريات  Crustacea طائفة تسمى ثلاثيات الفصوص Trilobitesسادت في البحار لملايين السنين حتى انقرضت مع نهاية دهر الحياة القديمة Paleozoic Era. وظهرت أنواع من شوكيات الجلد غريبة الشكل ، أما الأشكال المعروفة منها حالياً مثل نجم البحر وقنافذ البحر فلم تظهر بعد في  العصرالكمبري  .

وبالرغم من ظهور ممثلات لجميع الطوائف في بحار الكمبري إلا أن ذلك لا يعني أن بحاره كانت شبيهة ببحارنا من حيث الحياة الحيوانية ، فهذه الطوائف كانت ممثلة بأنواع قليلة وبدائية كما أن الكثير منها منقرض الآن . وهذا الانفجار الحيوي الرائع لا يعرف سببه على وجه الدقة ، ولكي تقدر فرادة هذا الحدث الحيوي الفذ في التاريخ الجيولوجي فلك أن تعرف أن 80% من جميع الطوائف الحيوية المعروفة حالياً كانت ممثلة في بحار الكمبري ، فلم يستجد خلال الخمسمائة مليون عام الماضية إلا خُمس عدد الطوائف الكلي المعروفة حالياً .

ولا شك أنك ستشعر بالغبطة والزهو وأنت في مكانك ذاك مما يسمى الآن جبل ساق ، فهذا الجبل الخالد كان شاهداً على انفجار الحياة في العصر الكمبري قبل 541 مليون عام ، وكأنها أُوقظت من سباتٍ أزلي  .

وحين هدأ طوفان المشاعر والأفكار التي فجرها مرأى جبلِ ساق في داخلي همهمت قائلاً : سلاماً يا جبل ساق الخالد يا حامل الصفحات الهامة من أرشيف تاريخ هذا الكوكب  ويا شاهد انفجار الحياة في عصر ميلادك ، وحياك الحيا ليخضر سفحك ولتنعم صخورك بصحبة الأشجار والأزهار التي حرمت منها لملايين السنين .  هل أنعم منك بلحظة كشف صوفي لأفهم  كيف أن كل ذرة فيك ظلت مأسورة حبيسة المكان لأكثر من 541 مليون عام ؟  وحين أغوص في تلك الفكرة وتمتلك مسرح تفكيري أشعر بالدوار . لعل  مفهوم الزمن هو أغرب ما في هذا الكون . كل القوانين الفيزيائية يمكن فهمها ،أما الزمن فستبتلعك متاهاته ولن تجد طريقا سهلا للتخلص من أحابيله. والجيولوجيا ترتكز على البعد الرابع كأحد أركانها الأساسية وهذا  هو مكمن  ورطة الجيولوجي الفكرية. بل هو أعظم مأزق وتحدٍ فكري يواجه العقل البشري  .

وحين أفقت من هواجسي كانت الشمس تميل نحو الزوال ، والأرض من حولي والتي بللها المطر منذ فترة تبعث برائحة الطين المنعشة فلملمت نفسي المبعثرة والمضطربة وتنفست الصعداء وأخذت نفسا طويلا أبقيته داخل رئتي  لبرهات وأدرت مفتاح المحرك وقفلت راجعاً ، وأنا أرقب مرأى جبل ساق في مرآة السيارة وهو يتلاشى حتى اختفى كلياً  .

احمد عبدالله الأســـود

Kumait779@hotmail.com

Comments

Popular posts from this blog

من أنا؟

كميـــــــت